بقلم: د. سعيد عكاب عبد العالي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من اصطُفي من الخلق، وانتُجب من الورى، محمد وآله أُلي الفضل والنُّهى.
وبعد:
صيغ المبالغة هي من المُشتقَّات الملحقةِ باسمِ الفـاعلِ، تأتي للدَّلالةِ على المُبالغةِ والكثرةِ في الحدثِ المَنسوبِ إلى الذَّاتِ على وجهِ التَّغيُّرِ والحدوثِ، وتأتي على أوزانٍ، وأشهرُها، (فَعّال، وفَعُول، ومِفعال، وفَعيل، وفَعِل)([1]). وتشتركُ هذه الأبنيةُ في دَلالةٍ مركزيَّةٍ واحدةٍ، هِي المبالغةُ، لكنَّها تحملُ دلالاتٍ فرعيَّةً مختلفةً؛ لتُناسبَ سياقَ المعنى الَّذي يُرادُ التَّعبيرُ عنهُ، واختلافُ الأوزانِ يدلُّ على اختلافِ المعاني، وإلَّا جازَ الاستغناءُ عنهَا جميعها بِبناءٍ واحدٍ([2]). وتختلفُ هذه الأبنية فيما بينها، فنجد«اسمَ الفاعل يُحوَّلُ للمبالغةِ والتَّكثيرِ إلى(فعَّال، وفَعول، ومِفعال) بكثرة، والى فعيل، وفعِل»([3])، أقلّ منها في اللُّغة العربيَّةِ. ولا تجيء(صيغ المبالغة)، إلَّا من مصدرِ فعلٍ قابلٍ للزِّيادةِ، فلا يُقالُ: موَّات ولا قَتَّالٌ، في شخصٍ ماتَ أو قُتلَ؛ إذ لا تفاوتَ في الموتِ والقتلِ، إذا قُصدَ معنى الموتِ والقتلِ([4]).
وأبنيةِ المبالغةِ الَّتي وردتْ في مرويَّات الإمامِ(عليه السَّلام)، بلغت(عشرين) مرَّة، وبصيغٍ مختلفةٍ، منها الآتي:
1ـ (فَعَّال) بفتح الفاء وتشديد العين: تُعدُّ من أقوى صِيغِ المبالغةِ للدَّلالةِ على الشَّيء الَّذي يَتَكرَّرُ فعلُهُ، مثل(كَذَّاب، كَفَّار، غفَّار)، أو الشَّيءِ المُلازمِ لصَاحِبهِ حتَّى صَارَ حرفةً لصاحبِهِ، مثل(نَجَّار، حفَّار، خيَّاط)، وهذه حِرَفٌ تَقتضي المُلازمة والدّوام لمن يُوصفُ بها([5])، وقد وردَ هذا البناءُ في المرويَّات(عشر) مرَّات.
استشهدَ ابنُ منظور بحديثِ الإمــامِ عليٍّ(عليه السَّلام) في بيانِ معنى(الخَبْط)، فقالَ:«الخَبْطُ كلُّ سْيرٍ عَلَى غَيْرِ هُدًى. وفي حَدِيثِ عَلِيٍّ، (عليه السلام): خَبَّاطُ عَشواتٍ، أَي: يَخْبِطُ في الظَّلَامِ، وهُو الَّذي يَمْشِي في اللَّيْلِ بِلَا مِصْباح فَيَتَحَيَّرُ ويَضلُّ، فَرُبَّمَا تَردَّى في بِئْرٍ، فَهُو كَقَوْلِهِمْ: يَخْبِط في عَمْياء إِذا رَكِبَ أَمرًا بجَهالة»([6]). وقد رُويَ الحديثُ في نهجِ البلاغَةِ بالشَّكلِ الآتي:«. . . جاهلٌ، خبَّاطُ جهالاتٍ، عاشٍ رَكَّابُ عشواتٍ»([7]).
وخبَّاطٌ، صيغةُ مُبالغةٍ، أيْ: دائمُ الخبطِ ومستمرٌّ على ذلكَ، وهذا الوصفُ ملازمٌ لهُ، ومُتجدِّدٌ فيهِ. ومعنى خبَّاطِ عشواتٍ، أَيْ: «خبط ظلمات، وخابط العشوة نَحْو: واطىء العشوة. وهُو الَّذي يمشي في اللَّيْل بِلَا مِصْبَاحٍ فيتحيَّر ويَضلّ، ورُبَّمَا تردَّى في بِئْر، أَو سقطَ على سَبُعٍ»([8]). يلمسُ القارئُ في النَّصِّ صورةَ ذلكَ الإنسانِ الجَاهلِ، الَّذي نصبَ نفسه قاضيًا يحكمُ بين العبادِ، وقد ركنَ إلى هواه في حكمِهِ بينهم، وتومئ هذه اللَّفظةُ إلى كثرةِ وقوعِهِ في الخطأ، ومجانبتِهِ للصَّواب، إذ لم يَعتمدْ في أقـوالِهِ وأحكامِهِ على أصلٍ ثابتٍ، أو قاعدةٍ صحيحةٍ، ولا يدري ما لَهُ ممَّا عليه، فكثيرًا ما يخبطُ، ولا يتوانى في إصدارِ القراراتِ والأحكامِ، فهو يحكمُ بمَا يُمليهِ عليه هـواهُ، وما تقتضيه نفسُهُ([9])، فأصبحتْ هذه الصِّفةُ ملازمةً لهُ، ومُتجدِّدةً فيهِ([10]).
الهوامش:
[1] ينظر: شرح الكافية الشافية، لابن مالك:1/60، وأوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: 3/184، وهمع الهوامع في شرح جمع الجوامع، للسيوطي: 3/74.
[2] ينظر: التحليل اللغوي في ضوء علم الدَّلالة: 85.
[3] ضياء السالك إلى أوضح المسالك، محمد عبد العزيز الجبار: 3/16.
[4] ينظر: النحو الوافي: 3/269.
[5] ينظر: التحليل اللغوي في ضوء علم الدَّلالة: 85.
[6] لسان العرب،(خبط): 7/282.
[7] شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 1/283.
[8] غريب الحديث، لابن قتيبة: 2/120، والنهاية في غريب الحديث والأثر(خبط): 2/8.
[9] ينظر: نهج البلاغة، محمد عبده: 74، وأبنية المشتقات في نهج البلاغة، ميثاق عبد الزهرة(رسالة ماجستير): 33.
[10] لمزيد من الاطلاع ينظر: مرويات الامام علي عليه السلام في لسان العرب: سعيد عكاب عبد العالي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 56 – 58.