أولاً: أجزاء جسم الإنسان: (الناجذ)
قوله عليه السلام: ((عَضُّوا على النَّواجِذ))
بقلم: الباحثة زهراء حسين جعفر
الحمدُ لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وسببا للمزيد من فضله، ودليلا على آلائه وعظمته، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالضياء، وقدمه في الاصطفاء، وجعله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
أنَّ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتب غريب الحديث يكشف الكثير من المعاني، ويظهر ما يكمن وراء هذا النظم من معانٍ، وأسرار ونحو ذلك[1].ومن الألفاظ والتراكيب التي وردت في كلامه (عليه السلام) في كتب غريب الحديث الدالة على أجزاء جسم الإنسان وما يلحق بها يتبين ذلك في ضوء الحقول الدلالية الآتية:
الناجذ
قال الإمام (عليه السلام) في أيام صفين: ((عَضُّوا على النَّواجِذ))[2]. استعمل الإمام ( النواجذ) مع المصاحبات اللغوية اقتضائها المقام من كلام له لأصحابه على فنون القتال العملية في ساحة المعركة ضمن جملة نصائح يوجه (عليه السلام) إلى الالتزام بها، وذلك في خطبة له ذكرها شراح نهج البلاغة قوله (عليه السلام): ((معاشر المسلمين استشعروا الخشية، وتجلببوا السكينة، وعضّوا على النواجذ، فإنه أنبى للسيوف عن الهام...))[3]. المفردة الغريبة التي وردت(النواجذ) صيغة الجمع مفرده (ناجذ)، قال الخليل: ((الناجِذ وهو السن بين الأنياب والأضراس، وقول العرب: بدت نواجِذُه إذا ظهر ذلك منه ضحِكاً أو غَضَباً))[4].
وقد اختلف أصحاب اللغة فِي بيان معنى النَّواجذ، قال ابن دريد: ((النواجذ: أقاصي الأضراس فِي الْفَم الْوَاحِد ناجذ وَهِي أَرْبَعَة أضراس تنْبت بعد أَن يشب الْغُلَام تسميها الْعَامَّة أضراس الْعقل..))[5].
وفي التهذيب: النّاجِذ هو: (( السِّنُّ، بَين النَّاب والأضْرَاس...))[6].وقول ابن منظور: النَّواجذ هي: أَربعة فِي أَقصى الأَسنان بَعْدَ الأَرْحاءِ، وَتُسَمَّى ضرس الحلُم؛ لأَنَّهُ ينبتُ بَعدَ البلوغِ وكمال العقل، وقيل: النواجذ التي تَلي الأنياب[7].
فالاختلاف قائم حتى عند اصحاب غريب الحديث في بيان معنى (النواجذ)، إذ قال ابن قتيبة: (( الناجذ: آخر الأضراس))[8]. ويتضح من قول الحربي: النَّواجِذ أَربعَة، وهِيَ الَّتِي تَنبتُ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا يَبْلغُ [9]. وقال الزمخشري: (( لناجذ: آخر الْأَسْنَان. وَيُقَال لَهُ ضرس الْحلم. وَمِنْه اشتقوا رجل منجذ....))[10]، كما ذكر ابن الجوزي عدة أقوال منها: ((... وَقَالَ غَيرهم هِيَ أدنَى الأضراس وَقَال آخرون هِيَ المضاحك))[11]، وذكر آراء الذين سبقوه منها: قول((ثعلب بأنَّ النواجذ في قول عليّ الأنياب وَهُوَ أحسن مَا قيل فِي النواجذ.....))[12].
ويتضح من قول ابن الأثير بأنَّ النَّوَاجِذ مِنَ الأسْنان هي الضَّواحِك، وَهِيَ الَّتِي تَبْدو عِنْدَ الضَّحك، [13]، والرأي الأغلب عند اصحاب غريب الحديث النَّوَاجِذ مِنَ الأسْنان هي الضَّواحِك.، وفي صحيح مسلم روي عندما ضَحكَ رسول الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله)َ بَدَتْ نَواجِذُهُ، وَسَند الحَدِيثِ: ((فلقد رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ))[14].
قوله (عليه السلام)( عضّوا على النواجذ)، (عضّوا) من الفعل (عضَّ)، يُقَال: عضضْتُه، وأَعَضُّ...عَضّاً، أي بمعنى مَسَكْتُهُ، أو أَمْسَكْتُه بأَسْنَانِي وشَدَدْتُه بهَا[15]. وقال ابن دريد: ((فِي بعض الْأَخْبَار: عضّوا على النواجذ وأعيروني هامكم سَاعَة))[16]، ويقال: ((عضَّ الرَّجلُ عَلى نَوَاجِذه إِذا صَبر على الْأَمر)) [17]. هذا مَثَل في شدّة الاسْتمساك؛ لأنّ العضَّ بالنواجذ عَضٌّ بجميع الفَم، وهي أواخرُ الأسنان..
وقديماً قالو ا: إنّ العاضّ على نواجذه ينبو السيف عن هامته؛ لأنّ عظام الرأس تشتد وتتصلب، فلا يبلغ السيف منه مبلغه فيما لو صادفه رخواً، فكان على مقاومة السيف أقدر، وكان تأثير السيف عند الضرب فيها أقل..[18]
والسياق يسعف هذه الدلالة في قوله(عليه السلام)(عضّوا على النواجذ)،أي بمعنى اصبروا على الامور؛ لأنّ الإمام قد نصح أصحابه بحركات جسدية تقيهم بعض الضّرر وتدفع ضعف العزيمة، وهذا كلام ليس على حقيقته بل هو كناية عن الأمر بتسكين القلب، وترك اضطرابه واستيلاء الرعدة عليه [19].
ويلحظ أنَّ الإمام (عليه السلام) في نص حديثه قد اعتمد على استعمال صيغة الأمر المعروفة في اللغة متمكناً من الثروة اللغوية التي يختزنها وقدرته في صياغة الأساليب البلاغية لبيان الواجبات والالتزام بها وتنفيذها، ولما أراد في استعماله للنواجذ من الأضراس القوة المتحصلة من انطباقها المحكم مقارنة بالأسنان الأُخر، وما يعزّز هذه الدلالة استعمال الفعل عضّ بمعنى الشد بالأَسنان على الشيء.
ويبدو لنا أنه أراد فضلا على ذلك أن يتفطنوا إلى إتقان عملهم والحرص عليه، فالعرب تكني عن ذلك بالعض على النواجذ.
وكذلك ورد حديث الإمام علي(عليه السلام) فيه لفظة الناجذ بصيغة المثنى في قوله: ((إنَّ المَلَكَين قاعِدان عَلَى ناجِذيِ الْعَبْدِ يَكْتُبان))[20]. ويقصد به سِنَّيه الضاحِكين، وَهُمَا اللَّذان بَيْنَ النَّابِ وَالْأَضْرَاسِ[21].
ولتحليل نص الحديث وبيان روائع كلامه (عليه السلام) مستنبطا مكنون الالفاظ في السياق المنتظم الذي انماز ببلاغة الإداء وسلامة الذوق بقوله(إنَّ الملكين قاعدان) فقد وردت لفظة (قاعدان) بصيغة اسم الفاعل للدلالة على الثبات، وقوله (ناجذي) فقد خصص ذلك بإضافة الرجل إليه.
فحوى كلامه أنّ الله جعل لكل انسان ملائكة يحفظونه، ويكتبون ما يلفظ من قول سواء كان خيرا، أم شرا، وما يلحظ أنَّ كلامه(عليه السلام)، وثقافته ناضحة من القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ*كِرَامًا كَاتِبِينَ*يَعْلَمُون ما تَفْعَلُونَ}[22].
وكذا ورد قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (( كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر))[23].[24].
الهوامش:
[1] ينظر: الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم: بسيوني عبد الفتاح: 41.
[2] غريب الحديث في بحار الأنوار: 3/64.
[3] نهج البلاغة بشرح محمد عبده: 1/114، نفحات الولاية: 3/55.
[4] العين: (نجذ)6/95.
[5] جمهرة اللغة: (نجذ)1/454.
[6] تهذيب اللغة: 11/13، ونقل ابن فارس قول احدهم: إِنَّ الْأَضْرَاسَ كلَّهَا نَواجذُ. وَهذَا عِنْدَنَا هو الصَّحِيح..).المقاييس: 5/ 392.
[7] ينظر: لسان العرب: (نجذ)5/512.
[8] غريب الحديث: 2/123.
[9] ينظر: غريب الحديث: 3/1174.
[10] الفائق في غريب الحديث: 3/30، وينظر: غريب الحديث في بحار الأنوار: 4/19.
[11] غريب الحديث: 2/392.
[12] م. ن: 2/393-394.
[13] ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: 5/20، وغريب الحديث في بحار الأنوار: 4/19.
[14] صحيح مسلم: تح: محمد فؤاد عبد الباقي: 1/173.
[15] ينظر: تاج العروس: (عضض)18/433.
[16] جمهرة اللغة: (نجذ)1/454.
[17] الفائق في غريب الحديث: 3/303، وينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: 5/20.
[18] ينظر: نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد: 5/169، ونهج البلاغة بشرح محمد عبده (ت1323ه): 1/114.
[19] ينظر: نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد: 5/169.
[20] تهذيب اللغة: (نجذ)11/13، النهاية في غريب الحديث والأثر: 5/20.
[21] ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: 5/20.
[22] سورة الانفطار: 10-13.
[23] مسند الروياني: أبو بكرمحمد بن هارون الرُّوياني (ت 307هـ ): تح: أيمن علي أبو يماني: 2/286.
[24]لمزيد من الاطلاع ينظر: كلام الإمام علي عليه السلام في كتب غريب الحديث/ دراسة في ضوء نظرية الحقول الدلالية، تأليف زهراء حسين جعفر، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 64 –68.