بقلم: الدكتور حسن طاهر ملحم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من تبوأ من الفصاحة ذروتها وأصبح بذلك أفصح العرب أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين لا سيما الإمام علي عليه السلام أمير البيان..
وبعد:
قال الإمام علي عليه السلام: (عند الصباح يحمد القوم السرى)[1]
من خطبة له (عليه السلام) في عظمة الله سبحانه وتعالى (.... والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ولقد قال لي قائل:(ألا تنبذها عنك؟ فقلت أغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى)[2].
إن أول من قال ذلك خالد بن الوليد لما بعث إليه أبو بكر وهو باليمامة: أن سر إلى العراق فأراد سلوك المفازة، فقال له رافع الطائي: قد سلكتها في الجاهلية، وهي خمس للإبل الواردة، ولا أظنك تقدر عليها إلا انه تحمل من الماء، فاشترى مئة شارف[3] فعطشها، ثم سقاها الماء حتى رويت ثم كبتها وكمم أفواهها ثم سلك المفازة حتى إذا مضى يومان، خاف العطش على الناس والخيل، وخشى أن يذهب ما في بطون الإبل واستخرج ما في بطونها من الماء، فسقى الناس والخيل، ومضى، فلما كان في الليلة الرابعة قال رافع: انظروا هل ترون سدرا عظاماً؟ فإن رأيتموها وإلا فهو الهلاك، فنظر الناس فرأوا الِّسدر فأخبروه، فكبر، وكبر الناس ثم هجموا على الماء فقال خالد[4]:
لله در رافــــع أنـــى اهــتــــــدى فَــوزَ من قراقَــــــر إلى ســــــوى
فما إذا ســـــــار به الجيش بكـــى مـا سارهـــا من قبــله إنس يـرى
عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجــلي عنه غبابـــــات الكـرى
وينسب أبو هلال العسكري[5] المثل إلى الجميح يقول[6] فيه:
قلت اغـــري صاحــبي إلا بكى
عند الصباح يحمد القوم الســــرى
وتنقضي عنهم غيابات الكــــرى
ويضرب المثل لما ينال بالمشقة، ويوصل إليه بالتعب رجاء الراحة[7] وعند الزمخشري: يضرب في الحث على مزاولة الأمر بالصبر وتوطين النفس حتى تحمد عاقبته[8] والإمام (عليه السلام) استخدم المثل ووظفه من اجل ان يفهم السائل بأنه يحتمل المشقة والعناء في الدنيا مقابل الكسب في الدنيا والآخرة.
فترقيع مدرعة الإمام من قبل راقعها واستحياء الإمام من ذلك لم يكن إلا لغاية عظيمة يدركها ذو الفهم الواضح، ودرس إلى السلاطين ومن يلوذ بهم بأن هذه المدرعة تعدل جببكم وألبستكم المزيفة.
ألا وهو القائل: عندما سئل لم ترقع قميصك؟
قال (عليه السلام): ليخشع القلب، ويقتدي بي المؤمنون [9].[10].
الهوامش:
[1]- المفضل بن سلمة: الفاخر: ص193؛ البكري: فصل المقال / 266
[2]- نهج البلاغة، خطبة (158)
[3]- شارف: من النوق المسنة الهرمة.
[4]- الميداني: مجمع الأمثال، 2/318.
[5]- جمهرة الأمثال: 2/42.
[6]- الجميح: منقذ بن طريف الاسدي يقال له الجليح، فارس شاعر جاهلي قتل يوم جبلة عام مولد النبي (صلى الله عليه واله) (سنة 53 ق.هـ)، ترجمته: الزمخشري: الفائق في غريب الحديث، 3/219؛ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/642.
[7]- الميداني: مجمع الأمثال 2/318.
[8]- المستقصى: 2/168
[9]- ابن أبي الحديد: شرح النهج، 9/235.
[10]لمزيد من الاطلاع ينظر: الأمثال العربية ومدلولاتها التاريخية في كتاب نهج البلاغة، للدكتور حسن طاهر ملحم، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 121 –123.