من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة: قوله (عليه السلام): ((وَوَحَّدْتُهُ تَوْحِيْدَ عَبْدٍ مُذْعِنٍ...))

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة: قوله (عليه السلام): ((وَوَحَّدْتُهُ تَوْحِيْدَ عَبْدٍ مُذْعِنٍ...))

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 03-01-2022

بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل – الجامعة المستنصرية

((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:
قوله عليه السلام: ((وَوَحَّدْتُهُ تَوْحِيْدَ عَبْدٍ مُذْعِنٍ، لَيْسَ لَهُ شَرِيْكٌ فِيْ مُلْكِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَليٌّ فِيْ صُنْعِهِ، جَلَّ عَنْ مُشِيْرٍ وَوَزِيْرٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ مِثــْلٍ وَنَظِيْرٍ))
   تدلُّ مادَّة «وحد» في اللُّغة على التَّفرُّد، يُقال: رجلٌ أَحدٌ ووَحَدٌ ووَحِدٌ ووَحْدٌ ووَحِيدٌ ومُتَوَحِّد، أَيْ: مُنْفَرِدٌ، والأُنثى وَحِدةٌ. وَرَجُلٌ وحِيدٌ: لا أَحَدَ مَعَهُ يُؤنِسُه، وَتَقُولُ: بَقِيتُ وَحيداً فَريداً حَريداً بِمَعْنًى وَاحِداً، وَلا يُقال: بَقِيتُ أَوْحَدَ، وأَنت تُرِيدُ فَرْداً، وَقولهم: كَانَ رَجُلاً مُتوحِّداً، أَي: مُنْفرداً لا يُخالِط النــَّاسَ وَلا يُجالِسُهم[1].
وقال الرَّاغب: «الوحدة: الانفراد، والواحد في الحقيقة هو الشَّيء الَّذي لا جزء له البتَّة، ثــُمَّ يُطلق على كلِّ موجود حتَّى إنــَّه ما من عدد إلاَّ ويصحُّ أَنْ يوصف به، فيُقال: عشرة واحدة، ومائة واحدة، وأَلفٌ واحدٌ... والوَحَدُ: المفردُ، ويوصفُ غيرُ الله تعالى، كقول الشَّاعر[2]:
عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحِدِ»[3].
والواحد من صفات الله تعالى؛ فهو المتفرِّد بالوحدانيَّة، والمختصُّ بها، فلم يُشركه في هذا الاسم شيءٌ من الأَعداد[4]، فلا قديم سواه، ولا إله سواه، فهو واحدٌ من حيث إنــَّه ليس له شريك فيجري عليه حُكم العدد، وتبطل به وحدانيَّته، وذاتُه ذاتٌ لا يجوز عليه التَّكثُّر بغيره، والإشارة فيه إلى أَنــَّه ليس بجوهر ولا عرض؛ لأَنَّ الجوهر قد يتكثــَّر بالانضمام إلى جوهر مثله، ويتركَّب منهما جسم[5]، والواحد من صفات الله تعالى، ومعناه: أَنــَّه لا ثاني، ويجوز أَنْ ينعت الشَّيء بأَنــَّه واحد؛ فأَمــَّا «أَحد» فلا ينعت به غير الله؛ لخلوص هذا الاسم الشَّريف له جلَّ ثناؤه، فقول: أَحَّدْتُ الله تعالى: ووحَّدتُه، وهو الواحد الأَحد[6]، والأَحد بمعنى واحد، وهو في الأَصل وحد[7].
وفَصَّل أَبو هلال العسكريّ في التَّفريق بين (الواحد)، و(الأَحد)، إذ قال: «الواحد: الفرد الَّذي لم يزل وحده، ولم يكن معه آخر. والأَحد: الفرد الَّذي لا يتجزَّأُ، ولا يقبل الانقسام. فالواحد: هو المتفرِّد بالذَّات في عدم المثل. والأَحد: المتفرِّد بالمعنى. وقيل المراد بالواحد: نفي التَّركيب والأَجزاء الخارجيَّة والذِّهنيَّة عنه تعالى، وبالأَحد: نفي الشَّريك عنه في ذاته وصفاته. وقيل: الواحديَّة: لنفي المشاركة في الصِّفات، والأَحديَّة لتفرُّد الذَّات. ولمَّا لم ينفك عن شأنه تعالى أَحدهما عن الآخر قيل: الواحد والأَحد في حكم اسم واحد. وقد يُفرَّق بينهما في الاستعمال في وجوه: أَحدها: أَنَّ الواحد يستعمل وصفا مطلقاً، والأَحد يختصُّ بوصف الله تعالى نحو: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)[8]. الثــَّاني: أَنَّ الواحد أَعمُّ مورداً؛ لأَنــَّه يُطلق على مَنْ يعقل وغيره، والأَحد لا يطلق إلاَّ على مَنْ يعقل. الثــَّالث: أَنَّ الواحد يجوز أنْ يُجعل له ثانٍ؛ لأَنــَّه لا يستوعب جنسه بخلاف الأَحد،  أَلا ترى أَنــَّك لو قلت: فلانٌ لا يقاومه واحد، جاز أَنْ يقاومه اثنان، ولا أَكثر. الرَّابع: أَنَّ الواحد يدخل في الحساب، والضَّرب، والعدد، والقسمة. والأَحد يمتنع دخوله في ذلك. الخامس: أَنَّ الواحد يؤنــَّث بالتَّاء، والأَحد يستوي فيه المذكَّر والمؤنــَّث، قال تعالى: (كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) [9]، ولا يجوز: كواحد من النِّساء، بل: كواحدة. السَّادس: أَنَّ الواحد لا يصلح للإقرار والجمع، بخلاف الأَحد فإنــَّه يصلح لهما؛ ولهذا وصف بالجمع قوله تعالى: (مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)[10]. السَّابع: أَنَّ الواحد لا جمع له من لفظه، وهو أَحدون، وآحاد»[11].
وقيل: إنَّ الفرق بين الواحد والأَحد: «إنَّ الأَحد شيءٌ بُني لنفي ما يُذكر معه من العدد، والواحد اسم لمفتتح العدد، وأَحَدٌ يصلح في الكلام في موضع الجحود، وواحدٌ في موضع الإثبات، يُقال: ما أَتاني منهم أَحدٌ، فمعناه: لا واحد أَتاني ولا اثنان، وإذا قلت: جاءني منهم واحد، فمعناه: أَنــَّه لم يأتني منهم اثنان، فهذا حدُّ الأَحد ما لم يُضف، فإذا أُضيف قَرُبَ من معنى الواحد، وذلك أَنَّك تقول: قال أَحد الثــَّلاثة كذا وكذا، وأَنت تُريد واحداً من الثــَّلاثة، والواحد بُني على انقطاع النَّظير، وعزو المِثــْل والوحيد بُني على الوحدة والانفراد عن الأَصحاب من طريق بينونته عنهم»[12]، فالأَحديَّة الإلهيَّة تعني أَنَّ الله واحد لا ثاني له في الرُّبوبية، ولا يُراد بها الوحدة العارضة؛ لأَنَّ الله تعالى أَحديّ الذَّات والصِّفات، لا تركيب له في ذاته ولا وراء ذاته[13]، فالله ــ سبحانه وتعالى ــ واحد في ذاته وصفاته، ولا شريك له في وجوده، ولا في أَفعاله[14].
وورد هذا الفعل «وحد» مرَّة واحدةً في الخطبة على زنة «فَعَّلَ» مطابقاً دلالته اللُّغوية؛ إذ قال أَمير المؤمنين (عليه السلام): «وَوَحَّدْتُهُ تَوْحِيْدَ عَبْدٍ مُذْعِنٍ، لَيْسَ لَهُ شَرِيْكٌ فِيْ مُلْكِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَليٌّ فِيْ صُنْعِهِ، جَلَّ عَنْ مُشِيْرٍ وَوَزِيْرٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ مِثــْلٍ وَنَظِيْرٍ»، ومن معاني زنة «فَعَّلَ» الجعل[15]، فأَمير المؤمنين (عليه السلام) جعل الله ــ تبارك وتعالى ــ واحداً، توحيد عبد مذعن، لا ثاني له بالرُّبوبيَّة، فهو ــ جلَّ وعلا ــ واحد في ذاته وصفاته، لا شريك له في وجوده، ولا في أَفعاله[16]، و«ووَحَّدْتُه» فعل ماضٍ مبنيٌّ على السُّكون؛ لاتِّصاله بضمير رفع متحرِّك، وهو التَّاء، والتَّاء ضمير متَّصل مبنيٌّ في محل رفع فاعل، عائد إلى أَمير المؤمنين (عليه السلام)، والهاء ضمير متَّصل مبنيٌّ في محلِّ نصب مفعول به، عائد إلى الله ــ تبارك وتعالى ــ. وجملة (ووَحَّدْتُهُ) معطوفة على جملة (وفَرَّدْتُهُ)[17].

الهواش:
[1]. ينظر: الصحاح في اللغة: 2/69.
[2]. البيت للنابغة، ينظر: ديوانه: 31، وتمام البيت:
كأنّ رحلي وقد زال النهارُ بنا  يوم الجليل على مستأنس وحد.
[3]. مفردات ألفاظ القرآن: 857 و858.
[4]. ينظر: الزينة في الكلمات الإسلامية: 2/47.
[5]. ينظر: الأسماء والصفات: 14 و15.
[6]. ينظر: لسان العرب: 3/70.
[7]. ينظر: كشّاف اصطلاحات الفنون: 1/91.
[8]. الإخلاص: 1.
[9]. الأحزاب: 32.
[10]. الحاقة: 47.
[11]. الفروق اللغوية: 95.
[12]. ينظر: تاج العروس: 1/2223 و2224.
[13]. ينظر: شرح الأسماء الحسنى: 75.
[14]. ينظر: رسالة التوحيد: 57و58.
[15]. ينظر: الفعل (فَرَّدتـُهُ) من الكتاب.
[16]. ينظر: بحار الأنوار: 38/160.
[17]لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 58 - 61.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2795 Seconds