من إرهاب الحرب النفسية على فاطمة عليها السلام الحلقة الثانية: حقيقة بيت الأحزان وكاشفيته التاريخية.

آل علي عليهم السلام

من إرهاب الحرب النفسية على فاطمة عليها السلام الحلقة الثانية: حقيقة بيت الأحزان وكاشفيته التاريخية.

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 05-01-2022

بقلم: السيد نبيل الحسني الكربلائي.

لا تجد المرأة بما خصها الله تعالى من عاطفة ورقة وضعف بدني -فيما لو قورن مع الرجل-غير الدمع وسيلة تعبر بها عما يختلج في نفسها من الألم والحزن والقهر، وكذاك الفرح؛ فالدمع هو اللسان الصامت الذي تستخدمه المرأة لإيصال المعاني بأوضح مما يجيده اللسان الناطق من بيان وبلاغة.

ولذا:

كانت بضعة النبوة (صلوات الله عليها) كثيرة الدمع ككثر الأحزان والآلام التي ألمت بها وأصابت قلبها الذي تصدع لفراق روح حياتها ووجودها ألا وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فضلاً عما شنته عصابة المسلمين -كما اسمتهم النصوص التاريخية- بقيادة ابن الخطاب ([1])، في حربها على فاطمة (عليها السلام) وبيت النبوة.

فكان من شأنها ما رواه العلامة المجلسي (رحمه الله) في بيانه لحجم حزنها على مصابها برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد روى ما دار من الحديث بين خادمتها فضة (رحمها الله) وورقة بن عبد الله وقد سألها عن حال فاطمة (عليها السلام) ، فقالت له:

(يا ورقة بن عبد الله! هيجت عليّ حزناً ساكناً، وأشجاناً في فؤادي كانت كامنة، فاسمع الآن ما شاهدت منها (عليها السلام):

أعلم أنه لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) افتجع له الصغير والكبير  وكثر عليه البكاء، وقل العزاء، وعظم رزؤه على الأقرباء والأصحاب والأولياء والأحباب والغرباء والأنساب، ولم تلق إلا كل باك وباكية، ونادب ونادبة، ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب، والأقرباء والأحباب، أشد حزنا وأعظم بكاء وانتحابا من مولاتي فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وكان حزنها يتجدد ويزيد، وبكاؤها يشتد.

فجلست سبعة أيام لا يهدأ لها أنين، ولا يسكن منها الحنين، كل يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأول، فلما كان في اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن، فلم تطق صبرا إذ خرجت وصرخت، فكأنها من فم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنطق، فتبادرت النسوان، وخرجت الولائد والولدان، وضج الناس بالبكاء والنحيب وجاء الناس من كل مكان، وأطفئت المصابيح لكيلا تتبين صفحات النساء وخيل إلى النسوان أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قام من قبره، وصارت الناس في دهشة وحيرة لما قد رهقهم، وهي (عليها السلام) تنادي وتندب أباها:

«وا أبتاه، وا صفياه، وا محمداه! وا أبا القاسماه، وا ربيع الأرامل واليتامى، من للقبلة والمصلى، ومن لابنتك الوالهة الثكلى».

ثم أقبلت تعثر في أذيالها، وهي لا تبصر شيئا من عبرتها، ومن تواتر دمعتها حتى دنت من قبر أبيها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما نظرت إلى الحجرة وقع طرفها على المأذنة فقصرت خطاها، ودام نحيبها وبكاها، إلى أن أغمي عليها، فتبادرت النسوان إليها فنضحن الماء عليها وعلى صدرها وجبينها حتى أفاقت، فلما أفاقت من غشيتها قامت وهي تقول:

«رفعت قوتي، وخانني جلدي، وشمت بي عدوي، والكمد قاتلي، يا أبتاه بقيت والهة وحيدة، وحيرانة فريدة، فقد انخمد صوتي، وانقطع ظهري، وتنغص عيشي، وتكدر دهري، فما أجد يا أبتاه بعدك أنيسا لوحشتي، ولا رادا لدمعتي، ولا معينا لضعفي، فقد فني بعدك محكم التنزيل، ومهبط جبرئيل، ومحل ميكائيل انقلبت بعدك يا أبتاه الأسباب، وتغلقت دوني الأبواب، فأنا للدنيا بعدك قالية وعليك ما ترددت أنفاسي باكية، لا ينفد شوقي إليك، ولا حزني عليك».

ثم نادت:

«يا أبتاه يا أبتاه».

ثم قالت:

إن حزني عليك حزن جديد       وفؤادي والله صب عنيد
كل يوم يزيد فيه شجوني          واكتيابي  عليك ليس يبيد
جل خطبي فبان عني عزائي     فبكائي كل وقت جديد
إن قلبا عليك يألف صبرا         أو عزاء فإنه لجليد


ثم نادت:

«يا أبتاه انقطعت بك الدنيا بأنوارها، وزوت زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة، فقد أسود نهارها، فصار يحكي حنادسها رطبها ويابسها، يا أبتاه لا زلت آسفة عليك إلى التلاق، يا أبتاه زال غمضي منذ حق الفراق، يا أبتاه من للأرامل والمساكين، ومن للأمة إلى يوم الدين، يا أبتاه أمسينا بعدك من المستضعفين ، يا أبتاه أصبحت الناس عنا معرضين، ولقد كنّا بك معظمين في الناس غير مستضعفين ، فأي دمعة لفراقك لا تنهمل، وأي حزن بعدك وعليك لا يتصل، وأي جفن بعدك بالنوم يكتحل، وأنت ربيع الدين، ونور النبيين، فكيف للجبال لا تمور، وللبحار بعدك لا تغور، والأرض كيف لم تتزلزل، رميت يا أبتاه بالخطب الجليل، ولم تكن الرزية بالقليل، وطرقت يا أبتاه بالمصاب العظيم، وبالفادح المهول.

بكتك يا أبتاه الاملاك، ووقفت الأفلاك، فمنبرك بعدك مستوحش، ومحرابك خال من مناجاتك، وقبرك فرح بمواراتك، والجنة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك.

يا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك، فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عاجلا عليك وأثكل أبو الحسن المؤتمن أبو ولديك، الحسن والحسين، وأخوك ووليك وحبيبك ومن ربيته صغيرا، وواخيته كبيرا، وأحلى أحبابك وأصحابك إليك من كان منهم سابقا ومهاجرا وناصرا، والثكل شاملنا، والبكاء قاتلنا، والأسى لازمنا».

ثم زفرت زفرة وأنت أنة كادت روحها أن تخرج، ثم قالت:

قل صبري وبان عني عزائي          بعد فقدي لخاتم الأنبياء
عين يا عين أسكبي الدمع سحا        ويك لا تبخلي بفيض الدماء
يا رسول الإله يا خيرة الله             وكهف الأيتام والضعفاء
قد بكتك الجبال والوحش جمعا        والطير والأرض بعد بكاء السماء
وبكاك الحجون والركن                والمشعر يا سيدي مع البطحاء
وبكاك المحراب والدرس للقرآن      في الصبح معلنا والمساء
وبكاك الإسلام إذ صار في            الناس غريبا من سائر الغرباء
لو ترى المنبر الذي كنت تعلوه       علاه الظلام بعد الضياء
يا إلهي عجل وفاتي سريعاً        فلقد تنغصت الحياة يا مولائي
قالت: ثم رجعت إلى منزلها وأخذت بالبكاء والعويل ليلها ونهارها، وهي لا ترقأ دمعتها، ولا تهدأ زفرتها، واجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقالوا له:

يا أبا الحسن إنّ فاطمة (عليها السلام) تبكي الليل والنهار فلا أحد منا يتهنأ بالنوم في الليل على فرشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنا نخبرك أن تسألها إما أن تبكي ليلا أو نهارا، فقال (عليه السلام): «حبا وكرامة».

فأقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى دخل على فاطمة (عليها السلام) وهي لا تفيق من البكاء، ولا ينفع فيها العزاء ، فلما رأته سكنت هنيئة له، فقال لها:

«يا بنت رسول الله  ــ صلى الله عليه وآله  وسلم ــ إن شيوخ المدينة يسألوني أن أسألك إما أن تبكي أباك ليلا وإما نهارا»؟ فقالت:

«يا أبا الحسن ما أقل مكثي بينهم ، وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم ، فوالله لا أسكت ليلا ولا نهارا أو ألحق بأبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)».

فقال لها علي (عليه السلام):

«افعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك».

ثم إنه بنى لها بيتا في البقيع نازحا عن المدينة يسمى (بيت الأحزان) ، وكانت إذا أصبحت قدمت الحسن والحسين (عليهما السلام) أمامها، وخرجت إلى البقيع باكية فلا تزال بين القبور باكية، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) إليها وساقها بين يديه إلى منزلها)([2]).

والحديث يكشف عن مبلغ حزنها وألمها على رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي ــ كما أسلفنا ــ وجدت فيه الوسيلة لبيان ما  أصابها من المصائب والخطوب؛ إلاّ أن الذي نحن بصدده هو: بيت الأحزان ، الذي أصبح شاهداً على إرهاب الحرب النفسية التي شنها ابن الخطاب في عصابة من المسلمين على بيت النبوة فلم يطيقوا سماع بكائها فمنعوها حتى من هذا الحق الإنساني والشخصي الذي ينفرد به الإنسان مع نفسه إلاّ أنهم أرهبوها بحربهم النفسية عليها.

ولأن بيت الأحزان كان أحد الشهود الحية والناطقة على إرهاب هذه فقد منعوا ذكره وقيامه، فهدم في البقيع بعد أن ظل ينوح على ما لاقته بضعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وينطق عما أجرمته عصابة المسلمين بحقها.

قال السمهودي في بيان المشاهد التي كانت في البقيع في المدينة المنورة:

(ومنها: مشهد سيدنا إبراهيم ابن سيدنا رسول الله (صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم)، وقبره على نَعْتِ قبر الحسن[عليه السلام] والعباس، وهو ملصق إلى جدار المشهد القبلي، وفي هذا الجدار شباك([3])، قال المجد: وموضع تربته يُعرف ببيت الحزن، يقال: إنه البيت الذي أوَتْ إليه فاطمة (رضي الله عنها)، والتزمت الحزن فيه بعد وفاة أبيها سيد المرسلين (صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم)([4])، انتهى.

والمشهور ببيت الحزن إنما هو الموضع المعروف بمسجد فاطمة[عليها السلام] في قبلة مشهد الحسن والعباس، وإليه أشار ابن جُبير بقوله: ويلي القبة العباسيّة بيت لفاطمة بنت الرسول [صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم] ويُعرف ببيت الحزن، يقال: إنه الذي أوَتْ إليه والتزمت الحزن فيه عند وفاة أبيها [صلى الله عليه ــ وآله ــ وسلم]([5]).

وفيه قبرها على أحد الأقوال ــ كما قدمناه ــ وأظنّه في موضع بيت علي بن أبي طالب[عليه السلام] الذي كان اتّخذه بالبقيع، وفيه اليوم هيئة قبور)([6]).

وذكره، أي: بيت الأحزان، حمد الجاسر في جمعه لمائة مخطوط في تاريخ المدينة المنورة، فقد ورد ذكره في وصف المدينة في سنة 1303هـ ــ 1885م لعلي بن موسى الأفندي فقال:

(وفي قبليها قبة لا شيء فيها، وتعرف بقبة الأحزان لا يزورها إلاّ الشيعة من الأعاجم وغيرهم في زمن الموسم)([7]) ــ أي الحج ــ.

وهذا يدل على أن بيت الأحزان كان قائماً وشاخصاً في هذا العام وما بعده حتى جاء شيخ بني أمية ابن تيمية الحراني في الحجاز ليجدد أرهاب النفسية والالاجتماعية والمادية على بيت النبوة فهدم أشياعه هذه الشواهد ليضيفوا بذاك أسماءهم إلى سجل تلك العصابة التي أحرقت واقتحمت بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة[8].

﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾[الشعراء:227].

 الهوامش:
([1]) الرياض النضرة للمحب الطبري: ج1، ص241.
([2]) البحار للمجلسي: ج43، ص175 ــ 178.
([3]) في المغانم المطالبة: ص209، زيادة: (من جهة القبلة).
([4]) المصدر السابق.
([5]) رحلة ابن جبير: ص155.
([6]) وفاء الوفاء للسمهودي: ج3، ص303.
([7]) وصف المدينة المنورة في سنة 1303هـ ــ 1885م (مخطوط).
[8] لمزيد من الاطلاع ينظر: موسوعة هذه فاطمة (عليها السلام) تاليف السيد نبيل الحسني: ج7 ص253-260 أصدار العتبة الحسينية المقدسة ط1 مؤسسة الأعلمي بيروت-لبنان 2012م

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2764 Seconds