الحلقة الثانية: محاولة التوفيق بين نقد الصحابة والتسليم لبيعة السقيفة.
بقلم: السيد نبيل الحسني الكربلائي
الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر بما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعمٍ ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين، عماد اليقين وأساس الدين.
وبعد:
يتجنب ابن أبي الحديد إيراد لفظ (الصحابة) في تفكيكه للنص الشريف وتفاعله مع فعل الإمام علي (عليه السلام) في جعل التولية والوصية في ابني فاطمة (عليهم السلام) فينسب فعل إبعاد الصحابة لأهل البيت (عليهم السلام) عن خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى المسلمين جميعا كما جاء بقوله:
(كان الأليق بالمسلمين والأولى أن يجعلوا الرياسة بعده لأهله).
وإستعارته للفظ (المسلمين) بديلاً وعوضاً عن لفظ (الصحابة) يفرض جملة من الأسباب، منها:
1- تجنباً من الوقوع في المشاكل والمتاعب التي قد تصل الى حد التكفير والقتل كما هو شأن كثير من أعلام أهل السنة والجماعة ، وحسبك من الشواهد قتل المسلمين للحافظ النسائي صاحب السنن في المسجد الأموي بدمشق رفساً بأرجلهم لقوله في معاوية بن أبي سفيان وقد سألوه عن فضائله فقال:
(لا يرضى معاوية رأسا برأس حتى يفضل) فما زالوا يدفعون في حضنيه حتى أخرج من المسجد ثم حمل إلى الرملة ومات بها سنة ثلاث وثلاث ماية وهو مدفون بمكة[1]
2- الخشية من اتهامه بالرفض لاسيما وأن جذوره الفكرية كانت شيعية ثم عدل الى الاعتزال؛ ومن ثم لا يختلف الأمر عن عنوان التعرض لمقام الصحابة أو الرفض، فالنتيجة واحدة عند كثير من المدارس الفكرية في الإسلام.
وحسبك من الشواهد قول الذهبي في الحافظ النسائي، فقد قال:
(ولم يكن أحد في رأس الثلاث مئة أحفظ من النسائي ، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم ، ومن أبي داود ، ومن أبي عيسى ، وهو جار في مضمار البخاري ، وأبي زرعة ، إلا أن فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي ، كمعاوية وعمرو ، والله يسامحه)[2] .
3- إنّ ذلك سيقود الى التساؤل وبث الظنون من حوله بتركه عقيدة الاعتزال التي ترى صحة ما وقع في السقيفة وأن البيعة التي تمت هي بيعة صحيحة- بحسب عقيدتهم-.
ومن ثم: فقد حاول ابن أبي الحديد التوفيق بين الأعتقاد بشرعية السقيفة وصحة البيعة لأبي بكر وعمر وعثمان وبين أن النتيجة فاسدة من هذه البيعة كما يقر بذلك في قوله:
(والأولى أن يجعلوا الرياسة بعده لأهله قربة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتكريما لحرمته، وطاعة له، وأنفة لقدره، (صلى الله عليه وآله) أن تكون ورثته سوقة، يليهم الأجانب، ومن ليس من شجرته وأصله).
ونلاحظ هنا تصريحه بأمور هي في غاية الأهمية:
1- إنّ إبعاد أهل البيت (عليهم السلام) عن الخلافة تسبب في الإبتعاد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهو ما قصده بـ «قربة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله)».
2- انتهاك حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو ما قصده بقوله «وتكريماً لحرمته».
3- معصية رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ وهذا ما قصده بقوله: «وطاعة له»، وهذا يكشف عن اقراره -اي: ابن ابي الحديد- بوجود وصية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) تأمر المسلمين جميعاً بالموالاة لعلي فهو الخليفة عليهم من بعده (صلى الله عليه وآله).
وإلا لا يمكن أن يتحقق أمر (الطاعة) مالم يكن هناك أمر وتكليف صادر عن النبي (صلى الله عليه وآله) بموالاتهم لعلي وأخذ البيعة منهم له(عليه السلام)، وإلا بخلاف ذلك، أي بخلاف وجود نص من النبي (صلى الله عليه وآله) كيف يمتثل المسلم للأمر.
4- إنّ الذين جلسوا في منصب الرياسة والخلافة يصنفهم ابن أبي الحديد الى ثلاثة أصناف وجميعهم يأنف منهم منصب خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ وهؤلاء ، هم:
أولاً: السوقة.
ثانياً: الأجانب.
ثالثاً: ليسوا من أصله(صلى الله عليه وآله) وشجرته.
ومن ثم فهذه المقبولية والتفاعل الذي أظهره ابن أبي الحديد المعتزلي مع حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) قد استنطقته بحقائق مهمة وخطيرة وكشفت عن روح الحركة التواصلية بين منتج النص (عليه السلام) والمتلقي؛ فقد اعطى المتلقي بفعل هذا التفاعل والتأثر مالم يكن ليطالب به منتج النص(عليه السلام) فيما لو افترضنا بأنه قد وجه خطابه الى المعتزلي مباشرةً ، وهذا يكشف عن قوة النص وانسجامه وتماسكه وتأثيره في وجدان المتلقي وعلى اختلاف الأزمنة كما سيمر لاحقاً في المبحث القادم..([3]).
الهوامش:
[1] معرفة علوم الحديث ، الحاكم النيسابوري : ج3 ص 248
[2] سير أعلام النبلاء : ج 14 ص 133
[3] لمزيد من الاطلاع، ينظر: فاطمة في نهج البلاغة تأليف السيد نبل الحسني: ج5، ص 123-125، ط دار الكفيل، العتبة العباسية المقدسة.