بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل – الجامعة المستنصرية
((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:
قوله (عليه السلام): ((جَلَّ عَنْ مُشِيْرٍ وَوَزِيْرٍ))
تدلُّ مادَّة «جَلَّ» في اللُّغة على الإكبار، والتَّجليل، والتَّرفُّع، والتَّعظيم. وقال الرَّاغب: «الجلالة: عِظَمُ القدر، والجَلال بغير الهاء: التَّناهي في ذلك، وخُصَّ بوصف الله تعالى، فقيل: (ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرامِ) [الرحمن/ 27]، ولم يستعمل في غيره، والجليل: العظيم القدر. ووصفُه تعالى بذلك إمَّا لخلقه الأَشياء العظيمة المستدلِّ بها عليه، أَو لأَنــَّه يجلُّ عن الإحاطة به؛ أَو لأَنــَّه يجلُّ أَنْ يُدرك بالحواسِّ... والجَلَل: كلُّ شيء عظيم»[1].
وقال القرطبيّ: «الجلال عظمة الله وكبرياؤه واستحقاقه صفات المدح، يُقال: جَلَّ الشيء: عَظُمَ، وأَجللتُه أَيْ: عَظَّمتُه، والجلال اسم من جلَّ»[2].
ويُقال: جَلَّ الشَّيءُ يَجِلُّ جَلالاً وجَلالةً، وَهُوَ جَلٌّ وجَلِيلٌ: عَظُم، والأُنثى جَلِيلة وجُلالة. وأَجَلَّه: عَظَّمه، يُقال: جَلَّ فُلانٌ فِي عَيني، أَيْ: عَظُم، وأَجْلَلته رأَيته جَلِيلاً نَبيلاً، وأَجْلَلْتُه فِي الْمَرْتَبَةِ، وأَجْلَلْتُه، أَيْ: عَظَّمته[3]، وجُلُّ الشَّيء وجُلالُه بضمِّهما: مُعظمُه[4].
وجاء هذا الفعل «جَلَّ» في الخطبة مرَّةً واحدةً مطابقاً دلالته اللُّغوية، أَورده أَميرُ المؤمنين (عليه السلام) في مقام تمجيد الله ــ تبارك وتعالى ــ، وتعظيمه؛ إذ قال (عليه السلام): «جَلَّ عَنْ مُشِيْرٍ وَوَزِيْرٍ»؛ أَيْ: أَنــَّه ــ تبارك وتعالى ــ أَعظم، وأَكبر، وأَرفع من أَنْ يتَّخذ مُستشاراً، أَو وزيراً في حكمه؛ فهو الفرد الصمد؛ الذي لا يحتاج إلى أَحد من خلقه، والخلق كلُّهم محتاجون إليه؛ قال ــ عزَّ من قائل ــ : (يَا أَيُّهَا النــَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [5].
و«جَلَّ» فعل ماضٍ، مضارعه «يَجِلُّ»؛ إذ الأَصل فيه: «جَلَلَ»، عُلَّ فيه بإدغام اللَّام الأُولى في الثــَّانية؛ لعدم جواز اجتماع حرفين متجانسين[6].
و«جَلَّ» فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمير مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ )[7].
الهوامش:
[1]. مفردات ألفاظ القرآن: 198.
[2]. الجامع لأحكام القرآن: 17/144. وينظر: فتح القدير: 5/193.
[3]. ينظر: لسان العرب: 11/116.
[4]. ينظر: تاج العروس: 1/6936.
[5]. فاطر: 15.
[6]. ينظر: الكتاب: 4/467، والكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها: 1/134، ومشكل إعراب القرآن: 1/74، وأسرار العربية: 418وشرح الشافية (للرضي): 1/25-29، والدراسات الصوتية عند علماء التجويد: 391، وأبو عثمان المازني ومذهبه في الصرف والنحو: 151، والإدغام في العربية (أُطروحة دكتوراه): 333، والعلة الصرفية وموقعها في الدرس اللغوي الحديث (أطروحة دكتوراه):41و42.
[7]لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 65 - 67.