بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي
الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
وبعد:
ورد لفظ البيع في سبع وعشرين موضعاً من النهج، ودّل على نوعين من البيع.
البيع المجازي: ومنه معنى الإستبدال أي الطّاعة والولاء لله (سبحانه وتعالى) والإمام علي (عليه السلام)، أو المبايعة، فولاة الأمور يعطون للناس الأمان والنصح والرَّاتب والرِّزق، والرَّعية تعطي الخضوع لهم والامتثال لأمرهم، فكأن الموضوع بيع وشراء لذلك سميت البَيْعَة، وهذه الصيغة تدلُّ على المشاركة بين طرفين وهما ركنان لابد منهما، فالبيعة تعني: « الصّفقة على إيجاب البيع وجمعها (بَيْعات) بالسكون وتحرك في لغة هذيل، وتطلق أيضا على المبايعة، والطَّاعة، ومنه (إيمان البيعة) وهي التي رتَّبها الحجاج »[1].
وجاء على صيغة الفعل الماضي (بَايعَ): على زنة (فاعَل) وهذه الصيغة تدلُّ على المفاعلة والمشاركة[2] ؛ لأنّها تحدث بين طرفين أو أكثر.
قال (عليه السلام) في مبايعة الناس له بالخلافة: «باع اليقين بشِّكِهِ والعَزيمة بوهْنِهِ»[3].
فقد جاء الفعل الماضي (باعَ) عن حادثة مضت فربط (باع) باليقين فحقق معنى مجازيا، فالبيع هنا بمعنى المبادلة، فأبدل آدم (عليه السلام) ماعنده من يقينٍ بما جاء إليه الشَّيطان من شكٍ، فاستبْدَلَ عزمه الرَّاسخ بوهنهِ الشَّاك، وجاءتْ الفاصلتان (شكه ووهنه) متشابهتين في الحرف الأخير، فموسيقى الفواصل حققت التناغم في الوزن والإيقاع» إتفاقاً في الزنة الإيقاعي مع إتفاقهما في الحرف الأخير، مِمَّا أتاح للكلام ركيزة نغمية محدثة توازناً موسيقياً»[4].
قابلَ الإمام (عليه السلام) بين اليَد والقلبِ مقابلة لغوية في كلامه عن حال الزُّبير، فقال: «بايعت بيدي لابقلبي، وكان يدعي أنَّه ُأكره، وأنه ورى في البيعة تورية أي انه أضمر خلاف ما اظهره[5].
في هذا النص إشارة واضحة إلى أنَّ الزبير لم يبايع الإمام (عليه السلام) قط وأظهر خلاف ماأضمره للإمام، حتى أنّ الإمام (عليه السلام) نفسه كان شاكا في بيعته، والمقابلة اللغوية هنا بين اليد والقلب. واستعمل الإمام (عليه السلام) الكناية بالتشَبيه، والتشبيه تمثيلي في قوله: «فَأَقْبَلْتُمْ إِلَيَّ إِقْبَالَ الْعُوذِ الْمَطَافِيلِ عَلَى أَوْلاَدِهَا، تَقُولُونَ: الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ! قَبَضْتُ كَفِّي فَبَسَطْتُمُوهَا، وَنَازَعَتْكُمْ يَدِي فَجَاذَبْتُمُوهَا» [6]، إذ صوّر حاله وحالهم حين إمتنع عن قبول البَيْعة بالخلافة، فأصّروا على مبايعته، فقبض كفه، لكنهم بسطوها ليبايعوه، وشبههم بالنوق المطافيل، وخصها الإمام (عليه السلام)؛ لأنّها تُقْبِل في شوق وحنان وسرعة على أولادها ؛ لتحضنها وتحميها وترضعها. فإقامة للحجة عليهم.
ويتضح لنا أنّ الأصل في فكرة البيع والشراء باقية مستقاة من المعنى القرآني؛ لكنَّ الإمام (عليه السلام) أضاف على هذا المعنى الموقف الفني للعَرض، فهو حين يشرع في التزهيد من الدُّنيا يوظف (فكرة البيع والشراء) القرآنية في عرض قلة مابقي من الدنيا ووصف هذه القلة بالغَناء، ومن ثم المقابلة بالصَّفقة الرَّابحة وهي (التجارة)؛ لذا جاءت التِّجارة رابحة حقا، وهي تجارة الأخيار..
و بِعْتُ الشَّيء بمعنى اشتريته. ولاتَـبـِعْ بمعنى لاتـَشْتـَـرِ. وبَعْتـُـه فابْتـَاع أي اشْتـَرَى[7].
قالَ ابنُ فارسٍ: «الباء والياء والعين اصل واحد، وهو بيع الشيء، وربما سُمِّي الشِرى بَيْعَا ً، والمعنى واحد »[8]. والبَيْع ُ: مصدر بَاع: يبيع، « والبَيْع ُ ضِدً الشِّراء، وهو من الأضْداد، وبِعْتُ الشَّيء شَرَيـْتـُه، أبِيْعُه بَيْعَاً ومَبِيْعَا، وهو شاذ وقياسه مُبَاعَا والابتيِاع: الإشتراء. وفي الحديث: لايخطبُ الرَّجُلُ على خِطْبَةِ أخيه ولايَبِعْ على بَـيِع أخِيه » [9]، ويبدو أنَّها صارت من الأضْداد ؛ لأنً البَيِعَ كان بِضَاعَةٌ بأخرى فالبَائِع يُعْطِي سلعة للمشتري، والمشتري يُعْطِيه سلعة بدلها، فكلّ بائعٍ مُشْتَـرِ وكُـلُّ مُشْتَـرٍ بَـائِع في الوقت نفسه.
وعرَّفه الراغب بقوله: « البيع إعطاء المثمن وأخذ الثمن، والشراء إعطاء الثمن وأخذ المثمن، ويقال للبيع الشراء وللشراء البيع وذلك بحسب مايتصور من الثمن والمثمن »[10].
أمّا الفيومي (ت 770 هـ) عرفه قائلا: « مبادلة مال بمال لقولهم (بَيْع) رابح و(بَيْع) خاسر وذلك حقيقة في وصف الاعيان لكنه اطلق على العقد مجازا لانه سبب التمليك والتملك »[11]. فالبيع شبيه باسلوب المقايضة[12].
الهوامش:
[1] المصباح المنير: 69.
[2] ظ: شرح شافية ابن الحاجب: الاستراباذي: 1 / 96.
[3] نهج البلاغة: خ 8، 14.
[4] الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية: مجيد عبد الحميد ناجي: 69.
[5] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 1 / 217.
[6] نهج البلاغة: خ 137، 138، والعوذ المطافيل هي النوق حديثة النتاج.
[7] ظ: العين (مادة بيع): 2 / 265.
[8] مقاييس اللغة: 1 / 327.
[9] ظ: لسان العرب (مادة بيع): 1 / 401 وظ: القاموس المحيط: الفيروز ابادي: 3 / 9 ـ 10.
[10] المفردات في غريب القران: 86.
[11] المصباح المنير: 69.
[12]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 77-79.