بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل – الجامعة المستنصرية
((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي: عُبِدَ فَشَكَرَ
عُبِدَ
تدلُّ مادَّة «عبد» في اللُّغة على الخضوع، والتَّذلُّل. فالعبد: الإنسان حرّاً كان أَو رقيقاً، ويُقال: عَبَدَ يَعبُد عِبادةً، ولا يُقال: إلاَّ لِمَنْ يَعبُد الله[1].
وقال الجوهريّ: «العَبدُ: المملوك، وجمعه: عَبِيد... وأَمَّا عَبَدَ يَعبُدُ عِبادة فلا يقال إلاَّ لِمَنْ يعبد الله. وتَعَبَّدَ تَعبُّداً، أَيْ: تفرَّدَ بالعبادة... واستعبدتُ فلاناً، أَيْ: اتخذته عبداً. وتَعَبَّدَ فلانٌ فلاناً، أَيْ: صيَّره كالعبد له، وإنْ كان حرّاً»[2].
وقال الرَّاغب: «العُبُودِيَّةُ: إظهار التَّذلُّل، والعِبَادَةُ أَبلغُ منها؛ لأَنــَّها غاية التَّذلُّل، ولا يستحقُّها إلاَّ مَنْ له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولهذا قال: (أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) [الإسراء/ 23]... وجمع العَبْدِ الذي هو مُسترَقٌّ: عَبِيد... وجمع العَبْدِ الَّذي هو العَابِدُ عِبَادٌ، فالعَبِيدُ إذا أُضيف إلى الله أَعمُّ من العِبَادِ؛ ولهذا قال: (وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [ق/ 29]، فنبَّه أَنــَّه لا يظلم مَنْ يختصُّ بِعِبَادَتِهِ، ومَن انتسب إلى غيره من الَّذين تسمَّوا بِعَبْدِ الشمس، وعَبْدِ اللَّات، ونحو ذلك»[3].
وقال ابن منظور: «العُبودِيَّة الخُضوع والذُّلُّ. والتَّعبيد التَّذليل، يُقال: طريقٌ مُعَبّدٌ... والتَّعبيد الاستعباد، وهو أَنْ يتَّخذه عبداً، والعبادة الطَّاعة، والتَّعبُّد: التَّنسُّك»[4].
وفرَّق أَبو هلال العسكريّ بين (العبادة) و(الطاعة) بقوله: «إنَّ العبادَة غَايَة الخضوع، وَلا تسْتَحقُّ إِلاَّ بغاية الإنعام؛ ولهذا لا يجوز أَنْ يعبد غير الله تَعَالَى، وَلا تكون الْعِبَادَة إِلاَّ مَعَ المعرفَة بالمعبود، والطَّاعَة: الفعل الوَاقِع على حسب مَا أَرَاده المريد مَتى كانَ المريد أَعلَى رُتبَة مِمَّن يفعل ذلك، وتكون للخالق والمخلوق، والعبادَة لا تكون إِلاَّ للخالق»[5].
والمعبود اسمٌ لله ــ تبارك وتعالى ــ «باعتبار كون تمام الموجودات مملوكاته بالاستحقاق لا بالاتِّفاق، فحقيقة العبادة انتباه النَّفس، وتذكُّرها لهذا المعنى مع إدمان إعماله في مقام العمل آناً فآناً؛ ولذا خُصَّ اللهُ تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، فقال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)[6]» [7].
وتطابقت دلالة الفعل «عبد» في الخطبة مع دلالته اللُّغوية؛ إذ جاء الفعل «عُبِدَ» مرَّةً واحدةً في الخطبة، في مقام تمجيد الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ وتعظيمه؛ ببيان صفاته ــ تبارك وتعالى ــ، وقابل فيها أَمير المؤمنين (عليه السلام) بينه وبين فعل آخر، وهو «شكر» ــ وسيأْتي الكلام على دلالته إنْ شاء الله تعالى ــ، فقال (عليه السلام): «عُبِدَ فَشَكَرَ»، و«عُبِدَ» فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول مبنيٌّ على الفتح، ونائب الفاعل ضمير مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ، وجملة (عُبِدَ) معطوفة على جملة (فَغفَر)[8].
الهوامش:
[1]. ينظر: العين: 1/95.
[2]. الصحاح في اللغة: 2/503.
[3]. مفردات ألفاظ القرآن: 542.
[4]. لسان العرب: 3/271.
[5]. الفروق اللغوية: 182.
[6]. الإسراء: 23.
[7]. شرح الأسماء الحسنى: 74.
[8] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 83- 85.