بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
فإن من الملاحظ أن الرسول صلى الله عليه وآله قد سار في الأمويين بسيرة الترغيب تارة باستئلافهم وتقريب المؤمنين منهم، وباغداق الأموال على الذين لم يثبت الإسلام في نفوسهم، والترهيب تارة أخرى بالقتل والنفي، مما جعل أولئك الذين دخلوا في الإسلام كرها أن يتقبلوا الحياة الجديدة على مضض مع بذلهم كل ما في وسعهم من طاعة مشاركة تخفف عن كواهلهم وطأة الاستصغار الذي لحق بهم جراء دخولهم الإسلام مرغمين[1]، وحاولوا جاهدين كبح جماح طموحاتهم وإضمارها في أعماقهم، لذلك فما ان انتقل الرسول صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الاعلى وانعقدت البيعة لأبي بكر حتى ارتفع صوت أبي سفيان بن حرب قائلاً لعلي عليه السلام «مال هذا الأمر في أقل حي من قريش، والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً»[2]، إذ تبدو العبارة وكأنها صادرة عن حمية جاهلية أو قل عصبية عشائرية يقصد به صيانة حقوق الهاشميين، ولكن الحقيقة من وجهة نظر علي عليه السلام ليست كذلك، لأنها وان كانت عصبية في ظاهرها، فما هي سوى فتنة اراد بها رأس الأمويين شق عصا المسلمين، لذلك بادره علي (عليه السلام) بالقول «يا أبا سفيان طالما عاديت الإسلام واهله فلم تضره بذلك شيئاً، إنا وجدنا أبا بكر لها هلاً»[3]، فعلي (عليه السلام) أدرى بما يضمره الأمويون للإسلام، فلو كانت مقولة أبي سفيان تلك تعبيراً عن عصبية خالصة، لما سكت عندما خلى له أبو بكر ما كان في يده من الصدقات التي كلفه رسول الله صلى الله عليه وآله بجمعها قبل وفاته وذلك امتثالاً لنصيحة عمر بأن «هذا قد قدم وهو فاعل شراً، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله يستألفه على الإسلام، فدع ما بيده من الصدقة، ففعل، فرضي أبو سفيان وبايعه»[4]. مع ملاحظة التباين بين موقف علي عليه السلام ، وبين موقف أبي بكر من تصرف أبي سفيان، فكلتا الشخصيتين تدركان تزعزع إيمان رأس الأمويين مع التباين في أسلوبهما في معالجة ذلك، فقد استخدم أبو بكر العامل المادي لقطع دابر الفتنة، ولكنه بذلك قوى العزم وانعش الأمل في نفوس الأمويين في تعويض ما افتقدوه من سلطان في ظل الإسلام، وذلك باتباعهم ذات الأسلوب ولكن بطرق مختلفة قد تكون أكثر احكاما ودهاء، اما علي عليه السلام فقد حسم الأمر بفضح أساليب أبي سفيان وكشف نواياه الحقيقة تجاه الإسلام، في محاولة منه لواد أية طموحات غير مشروعة تعود بالضرر على الإسلام، خاصة وأن الإسلام لم يعد في حاجة إلى استئلاف المنافقين وضعفاء الإيمان، بعد ان اشتد عوده وكثرت اعوانه بشهادة عمر بن الخطاب في قوله «كان يتألفكم والإسلام يومئذ ذليل وان الله قد أعز الإسلام»[5]، فلم تعد الحاجة إليه، لأن المنافقين ومن تابعهم من ضعفاء الإيمان أصبحوا قلة لا يشكلون أية خطورة على الإسلام.
ففي نفس الوقت الذي كان فيه الشيخان الأول والثاني قد ارتابا في نوايا أبي سفيان تجاه الإسلام في مطلع حكم أبي بكر كما اسلفنا، فإنهما قد قلدا الأمويين بعض الاعمال المهمة، وذلك على اعتبار ان الإسلام قد ازال ما في نفوس الأمويين[6]من عصبية جاهلية، ولكن الخليفة الرابع لم يثق قط بمعظم الأمويين، خاصة أولئك الذين تأخر دخولهم في الإسلام من الفرعين السفياني والمرواني، إذ يقسم في أحد المواقف تأكيداً لمقولته «والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر فلما وجدوا أعوانا أظهروه»[7].
فوثوق أبي بكر وعمر بالأمويين عامة وبمعاوية على وجه الخصوص لا يعني سلامة موقفهم بحيث يرتضيهم علي عليه السلام في معاونته على اعباء الحكم، فمعاوية الذي رفع راية العصيان في وجه علي عليه السلام ، لابد انه كان يتعجل موت عمر ويتمناه، وقد كان يتكلف ما يرضي عمر، لذلك فلقد تنفس الصعداء حين بلغة نبأ وفاة عمر وهو مازال على ولاية الشام، إذ اعتبر بقاءة في الولاية تزكية له فهو يقول لمن نفاهم إليه عثمان من اعيان أهل الكوفة حين عابوا سياسته وطالبوه بالاعتزال عن ولاية الشام «لقد رأى ذلك عمر بن الخطاب، فلو كان غيري اقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي»[8]، ثم إن عثمان قد احتج بتلك الحجة[9] على علي عليه السلام حين ناقشه في شأن ولاته وبالأخص معاوية الذي كان يقطع الأمور باسم عثمان الذي لا ينكر عليه ذلك.
لقد وضحت نوايا الأمويين بجلاء في إبان حكومة عثمان، إذ لم يكن في مقدورهم اعتبار الحكم في ظل الشريعة الإسلامية على انه خلافة، بل ملك، فقد استغل الأمويون قرابتهم من عثمان وحبه الشديد لهم اسوأ استغلال فأخذوا «يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع»[10]، فسعيد بن العاص والي عثمان على الكوفة يرى ان سواد العراق «بستان لقريش»[11] اما مروان بن الحكم[12] فإنه يرى ان الخلافة الإسلامية لن تخرج من البيت الأموي الا بالدم معتبراً إياها سلطانا وملكاً لا خلافة، وذلك بقوله وفي محضر من المسلمين في مسجدهم والحاكم حاضر «أما والله لا يرام ما وراءنا حتى تتواصل سيوفنا وتتقطع أرماحنا»[13])[14].
الهوامش:
[1] لمعرفة شعور الأمويين بعد دخولهم الإسلام راجع قول هند وأبي سفيان لابنهما معاوية حين استعمله عمر على مكة ـ العقد الفريد 4/365.
[2] تاريخ الطبري 3/ 209.
[3] المصدر السابق نفسه.
[4] العقد الفريد 4/257.
[5] ابن أبي الحديد 12/59.
[6] لمعرفة رأي علي (عليه السلام) في الأمويين راجع: البلاذري ـ أنساب الأشراف 2/103، صفين لابن مزاحم ص215، خطب 24، 76، 91.
[7] ابن مزاحم 215، رسائل ـ 16.
[8] تاريخ الطبري 4/ 325.
[9] راجع ص 229 وما بعدها من هذا البحث فقد فصلنا القول في شأن ولاة عثمان هناك.
[10] خطب ـ 3.
[11] تاريخ الطبري 4/ 323.
[12] مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية. وهو ابن عم عثمان بن عفان، لم ير النبي (صلى الله عليه وآله) لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل لما نفى اباه الحكم، وكان مع ابيه بالطائف حتى استخلف عثمان فردهما واستكتب عثمان مروان ـ أسد الغابة 5/144.
[13] الزبير بن بكار: الأخبار الموفقيات 618. وقد ورد مثله في تاريخ الطبري 4/334.
[14] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 262- 265.