بقلم : السيد نبيل الحسني الكربلائي.
من أبرز مظاهر الاضطهاد الفكري أن يُهجّر الإنسان من محل سكناه، لكونه يفكر بعقله لا بعقل غيره، ويؤمن ويحب بقلبه لا بقلب غيره!!.
فيحاسب ويقهر ويهجّر لكونه ــ وبحسب نظر أولئك المضطهدين ــ قد ارتكب جريمة كبرى لأنه تجرأ أن يفكر بغير عقولهم ويؤمن ويحب بغير قلوبهم.
ولذا: لا مكان له بينهم فهو أمام خيارين، إما أن يلغي عقله وقلبه لأن هناك من يفكر بالنيابة عنه، ومن يحب عوضاً عنه، وإما أن يرحل شاء ذلك أم أبى!.
وهذا هو الذي حصل في الكوفة أثناء تولي معاوية بن أبي سفيان الحكم على المسلمين، وهو الأمر الذي قد يتصوره المرء ــ أي هذا التهجير والتطرف ــ محال الوقوع في تلك الفترة التي لم تكن بالبعيدة عن وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أو أن يتصور البعض أن هذا التهجير والتطرف هو من إفرازات المجتمعات المعاصرة، ولاسيما الجاهلة والبدائية بفعل ابتعادها عن عوامل التمدن الإنساني والثقافي والمعرفي، أما أن يحدث هذا التطرف بعد مرور أربعين عاماً على وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو صعب التصور لما تتميز به هذه العقود من احتضانها لصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبنائهم.
إلا أنّ التاريخ لم يكن ليداري هذه الأفعال الهمجية مهما حاول المتزلفة للسلطة من تضييع أو تغيير للحقائق التاريخية.
إذن:
الذي حدث في مجتمع الكوفة في ولاية زياد بن أبيه أي بعد عام أربعين للهجرة، أن تلقّى أوامر من سيده معاوية باقتلاع العشائر والبيوتات التي تحب علي بن أبي طالب عليه السلام وتهجيرها إلى خراسان والشام، وجلب العشائر المعادية لعلي بن أبي طالب عليه السلام وزجها في المجتمع الكوفي حتى يتم تغيير هذه التركيبة الاجتماعية وفرض ثقافة العداء لأهل البيت عليهم السلام في المجتمع، أما هذا التغير في التركيبة العقائدية، لمجتمع الكوفة فقد تم على مرحلتين.
المرحلة الأولى من الإفراغ العقائدي في الكوفة
كان عام 40هـ، أي بعد استشهاد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وهو ما يعرف بعام الجماعة، أي اجتماع الكوفة والشام على حكومة واحدة، وقد اشتملت هذه المرحلة من التهجير الفكري والعقائدي في الكوفة على سمات عديدة يمكن لنا استخلاصها من خلال النص التاريخي الآتي:
قال الطبري: (ولم تزل سجاح ــ التميمية وهي التي ادعت النبوة ــ في بني تغلب حتى نقلهم معاوية عام الجماعة في زمانه، وكان معاوية حين أجمع عليه أهل العراق بعد عليعليه السلام يخرج من الكوفة المستغرب في أمر علي ــ عليه السلام ــ ويُنْزِلُ داره المستغرب في أمر نفسه من أهل الشام وأهل البصرة، وأهل الجزيرة، وهم الذين يقال لهم النواقل في الأمصار.
فأخرج من الكوفة قعقاع بن عمرو بن مالك إلى إيلياء بفلسطين فطلب إليه أن ينزل منازل بني أبيه، بني عقفان وينقلهم إلى بني تميم، فنقلهم من الجزيرة إلى الكوفة وأنزلهم منازل القعقاع وبني أبيه، وجاءت معهم ــ أي سجاح التميمية)([1]).
دلائل النص:
هذا النص التاريخي الذي انفرد به الطبري ولم ينقله عنه مؤرخ آخر هو في حد ذاته يشير إلى مجموعة من الأسئلة:
1 ــ ترى لماذا يعرض المؤرخون عن ذكر هذه الحادثة؟.
2 ــ ولماذا لم يتم التعريف بتلك البيوتات التي تم تهجيرها؟.
3 ــ وكيف انتهى بها الحال بعد موت معاوية؟.
4 ــ وهل بقيت في أماكنها التي هجرت إليها أم هل تعرضت للإبادة الجماعية تحت غطاء التهجير والنقل إلى بلد آخر؟.
5 ــ أم هل أنهم سجنوا؟.
6 ــ أم هل أنهم شردوا في البلاد فلا يعرف الأب عن أسرته شيئا، ولا تعرف النساء والأمهات عن أزواجهن وأبنائهن شيئا؟.
أسئلة كثيرة لا نجد إجابات لها!!، ولعلها، أي هذه الأسئلة هي التي منعت المؤرخين من تتبع هذه الأُسر ومعرفة ما انتهت إليه؟، وقد تكون الإجابات هي التي منعتهم؟!، لأنها تتحدث عن التطرف، والتهجير، والعنصرية، والإبادة الجماعية؟!، أو لعلهم أخذوا بنصيحة الشاعر حيث قال:
لا تكشفنّ مغطّاً فلربما كشّفت جيفة[2]
إلا أن ذلك لم يمنعنا من الوقوف عند هذا النص واستنطاقه، ليفصح لنا بعدة حقائق عن الآثار السلبية التي أعقبت عملية الإفراغ العقائدي الإسلامي في مجتمع الكوفة، فكان من ضمنها قتلهم لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسبي ذريته، وتسييرهم في بلاد المسلمين بتلك الصورة من الهوان.
أولا
لم تكن غاية معاوية إفراغ الكوفة من أتباع أهل البيت عليهم السلام فقط، وإنما إفراغها من العنصر الإسلامي بشكل أساس وتحويلها إلى حامية عسكرية تضم مجاميع من العشائر العربية والأعجمية لا تفقه في الحياة إلا الخضوع والطاعة للمملكة الأموية التي سرعان ما تكشفت أهدافها خلال السنين التي أعقبت عام الجماعة.
فكانت هذه الغاية السفيانية هي الهدف الأساس الذي سعى إليه معاوية فابتدأ أولا بنقل سجاح ورهطها إلى الكوفة، ــ وهم بنو عقفان ــ وإنزالهم منازل القعقاع، ــ وهم المؤيدون لها ــ؛ وإنها بعد هذا النقل ــ وبحسب عبارة الطبري ــ (أسلمت وحسن إسلامها).
ولا أدري من أين علم الطبري بأنها أسلمت وحسن إسلامها بعد انتقالها ورهطها ومؤيديها إلى الكوفة ولا أدري كم قضت سجاح وأتباعها من السنين ــ مع ادعائها للنبوة ــ حتى أسلمت وحسن إسلامها؟!.
ولا أدري كم أثرت أفكار هذه «المدعية للنبوّة» في أبناء المجتمع الكوفي، وهم بالطبع يظهرون الطاعة لمعاوية وقد وجدوا أحباب معاوية معهم؟!، ولا أدري كم من الوقت استمرت هذه الأفكار السجاحية في المجتمع الكوفي؟ ربما عقداً من الزمن أو عقدين لتترجم في عاشوراء كواقع عملي؟!.
إذن:
أول عمل قام به (خليفة المسلمين)!! أن نقل سجاح المدعية للنبوة مع قومها إلى الكوفة، وأطلق لها الحرية التكفيرية لنشرها في أوساط المجتمع الإسلامي وأن هذا العمل قد اتسم بأمرين:
ألف: إنزالها وقومها في منازل تمت مصادرتها من القعقاع بن عمرو بن مالك لموالاته عليا عليه السلام.
باء: نقل القعقاع بن عمرو إلى فلسطين.
ثانيا
أما الميزة الثانية التي يظهرها النص التاريخي، هو أن عملية الإفراغ العقائدي لم تقتصر على الأفراد الذين يستغرب حالهم في أمر علي عليه السلام، بمعنى لم يكن النقل لأفراد معدودين أو رموز الولاء لأهل البيت عليهم السلام، وإنما كانت عملية الإفراغ العقائدي لعشائر بكاملها ونقلها إلى أماكن بعيدة ومتفرقة.
والسبب في ذلك هو أن التنظيم القبائلي كان يحتم على أفرادها التمايز في الاعتقادات والمشايعات، فبعض القبائل عرفت بتشيعها لعلي عليه السلام، وبعضها عرفت بعداوتها له.
وحيث أن الحروب التي خاضها الإمام علي عليه السلام كانت متقاربة زمنيا، وفي رقعة جغرافية متباينة في الانتماء والتوزيع العشائري، فإن بعض هذه القبائل كانت تقاتل بأجمعها مع علي عليه السلام سواء كانت نجدية، أو يمنية، أو حجازية، أو مدنية، أو مكية.
ويمكن لنا تكوين صورة عن هذه القبائل التي كانت تقاتل مع علي عليه السلام في معركة الجمل وصفين من خلال روايتين أخرج الأولى منها الشيخ المفيد S في كتاب الجمل، وهي تتضمن أسماء العشائر المقاتلة معه في هذه المعركة فكانت:
(قريش، كنانة، أسد، قيس، عيلان، تميم، بكر، عبد القيس، خزاعة، قضاعة، بجيلة، كندة، همدان، مذحج)([3]).
أما الرواية الثانية والتي أخرجها نصر بن مزاحم في كتابه صفين، فكانت العشائر المقاتلة هي نفسها التي قاتلت في معركة الجمل.
وأضاف إليها العشائر الآتية: (عمرو، وحنضلة، وسعد، والرباب وهم من تميم، وذهل، واللهازم، وهم من بكر)([4]).
وهذا التداخل في الانتماءات العقائدية بين تلك القبائل من الموالين لعلي عليه السلام وهم السواد الأعظم من أهل تلك القبائل وبين المناوئين له استلزم أن يكون الإفراغ العقائدي من هذه العشائر بأعداد بشرية كبيرة ومجاميع عديدة بلغت الآلاف كما سيمر لاحقا.
ثالثا
الميزة الثالثة التي امتازت بها هذه المرحلة من الإفراغ العقائدي، أي في عام الجماعة هي إدخال مجاميع بشرية معادية لعلي عليه السلام وموالية لمعاوية في الكوفة، وإنزالها منازل المهجرين من أتباع أهل البيت عليهم السلام.
وهذا الأمر واضح في النص التاريخي الذي انفرد به الطبري فيقول:
(وكان معاوية يُخرج من الكوفة المستغرب أمر علي ــ عليه السلام ــ وينزل داره المستغرب في أمر نفسه من أهل الشام، وأهل البصرة، وأهل الجزيرة، وهم الذين يقال لهم النواقل في الأمصار)([5]).
وهذا يدل على ما يلي:
1 ــ أن عملية الإفراغ العقائدي تمت عنوة وقهرا وعلى أساس عقائدي، وفكر تطرفي، تمثل بإخراجهم من منازلهم ونقلهم إلى بلاد أخرى.
2 ــ مصادرة أموالهم غير المنقولة، أي منازلهم وتمليكها لغيرهم، وهذا الحال يدفع إلى احتمال مصادرة أموالهم المنقولة أيضا.
3 ــ إن عملية التهجير وإفراغ الكوفة عقائديا كانت تتم على الظنة فكل شخص كان يبدو منه أمر مستغرب يهجر من داره وينقل إلى أماكن أخرى.
4 ــ إن هؤلاء الذين هجروا قد تم نقلهم إلى خارج العراق، بدليل أن المدن التي ذكرها الطبري وهي الشام، والبصرة. والجزيرة كانت عثمانية أي توالي بني سفيان، وتتشيع لعثمان بن عفان، وعملية نقل شيعة علي عليه السلام إلى هذه المدن معناه تشيعها وهذا ما لا يريد معاوية تحقيقه.
بل كان الهدف هو العكس تماما أي تحويل الكوفة إلى أموية الثقافة وضمها إلى قائمة تلك المدن الثلاث.
وهذا يستلزم إخراجهم خارج العراق والشام والحجاز وهو ما تم تحقيقه في مرحلة التهجير الثانية والشاملة في ولاية زياد بن سمية على الكوفة.
ولا يفوتنا أن نقف ملياً لاختيار معاوية بن أبي سفيان فلسطين لاستيطان شيعة الكوفة، وهذه الولاية المعروفة بعدائها والمتمعنة بنصبها لعلي وآل علي إلى وقت قريب[6].
الهوامش:
([1]) تاريخ الطبري: ج 2، ص 500.
[2] بحار الأنوار ، المجلسي: 43 ص190
([3]) كتاب الجمل للشيخ المفيد: ص 172.
([4]) وقعة صفين لنصر بن مزاحم: ص 117.
([5]) تاريخ الطبري: ج 2، ص 500.
[6] لمزيد من الأطلاع ، ينظر: الأنثروبولوجيا الثقافية الاجتماعية لمجتمع الكوفة عند الإمام الحسين عليه اسلام ، السيد نبيل الحسني: ص44-50 ، أصدار العتبة الحسينية المقدسة/ قسم الشؤون الفكرية ، ط1 مؤسسة الأعلمي – بيروت لسنة 2009 م