بقلم : السيد نبيل الحسني الكربلائي.
«الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي لَا تُدْرِكُه الشَّوَاهِدُ ، ولَا تَحْوِيه الْمَشَاهِدُ ،ولَا تَرَاه النَّوَاظِرُ ،ولَا تَحْجُبُه السَّوَاتِرُ»[1] ، وصلواتهُ التامات الزاكيات على حبيبه محمد وعلى أهلِ بيته «أَسَاسُ الدِّينِ وعِمَادُ الْيَقِينِ ، إِلَيْهِمْ يَفِيءُ الْغَالِي وبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي ، ولَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ ، وفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ والْوِرَاثَةُ»[2]، وسلم تسليما كثيرا.
أَمَّا بَعْدُ:
حينما نعود إلى المرتكزات الفكرية التي أسس لها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في حروبه الثلاثة في تحديد معنى القائد والقيادة فإننا نجد بينهما، أي بين القيادة والقائد تلاحماً وتطابقاً مما جعله يحدد تلك المرتكزات لهما في قالب واحد، فكانت كما يلي:
قال صلوات الله عليه في عهده إلى مالك بن الأشتر لما ولاه على مصر:
«فولَّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف؛ ثم الصق بذوي الأحساب، وأهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة، والسخاء، والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من المعروف»([3]).
وقال عليه الصلاة والسلام:
«وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همهم هما واحداً في جهاد العدو؛ فإن عطفك عليهم، يعطف قلوبهم عليك، وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد؛ وظهور مودة الرعية»([4]).
وقال عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب حينما استشاره في الخروج لحرب الروم، وهل يخرج إليهم بنفسه وذلك حين خرج قيصر الروم في جماهير أهلها إلى المسلمين وانزوى خالد بن الوليد فلازم بيته وصعب الأمر على أبي عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة وغيرهما من أمراء سرايا الإسلام، فقال عليه السلام لعمر بن الخطاب:
«وقد توكّل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة وستر العورة والذي نصرهم، وهم قليل لا ينتصرون ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون، حي لا يموت إنك متى تسِرْ إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كأنفة دون أقصى بلادهم ليس بعدك مرجع يرجعون إليه فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة فإن أظهر الله فذاك ما تحب وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين»([5]).
وهذه النصوص الثلاثة تظهر مجموعة من السمات التي حددها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام والتي ينبغي توافرها في القائد كي يضمن الوالي أو الخليفة أو الحاكم للبلاد نجاح قيادته وتحقق أهداف نصره وتحقيق الأمن والأمان لرعيته، فكانت كالآتي:
1 - لابد أن يكون اختيار القائد من أهم واجبات رأس الهرم في السلطة وذلك أن جميع النتائج التي ستتمخض عن هذه القيادة ستكون في ربقة رأس الهرم في السلطة، ولذا قال عليه السلام:
«فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك».
وهذا هو الذي جعله عليه السلام يولي مالك الأشتر قائداً ووالياً على مصر فكانت جميع هذه الصفات التي ورد ذكرها في عهده عليه السلام إلى مالك متجسدة فيه.
أي: تكون السمة الأولى في القائد «النصيحة»، بل أنصح القادة أو الجند لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولإمامه، بمعنى: يلزم توفر عنصر الإيمان بالله واليوم الآخر لما يترتب على هذه القيادة من المسؤولية العظيمة فأرواح الجند بيده فضلاً عن أرواح خصمه وما يلحق به من الغنائم والأسر والتعامل مع الجرحى والنساء وغير ذلك.
2 - «أنقاهم جيباً».
لما يتعلق من أموال في ذمته سواء ما كان من نفقات الجند واحتياجات الحرب، أو الغنائم على صعيد الأموال والأنفس.
3 - «وأفضلهم حلماً».
إذ قد يكون غضبه سبباً في إزهاق كثير من الأرواح فضلاً عن جر الهزيمة للجيش أو البطش بالخصم.
4 - «ممن يبطئ الغضب».
5 - «ويستريح إلى العذر».
6 - «ويرأف بالضعفاء».
7 - «وينبو على الأقوياء»، أي «يشتد عليهم ويمنعهم عن ظلم الضعفاء».
8 - «وممن لا يثيره العنف».
9 - «لا يقعد به الضعف».
10 - «أن يكون من ذوي الأحساب»، أي: من الأسر التي توارثت المكارم.
11 - «أن يكون من أهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة»، أي: المعروفة بالصلاح والإيمان.
12 - «أن يكون شجاعاً».
13 - «أن يكون سخياً».
14 - «أن يكون سمحاً»، وذلك أن هذه الصفات الأخلاقية الثلاثة وهي (الشجاعة، والسخاء، والسماحة) جماع من الكرم وشعب من المعروف.
15 - «أن يكون محاربا»، أي: عارفاً بفنون الحرب، مجرباً لها، متمرساً فيها.
وهذه السمات الخمس عشرة حصرها أمير المؤمنين عليه السلام في القائد للجند والمنوط إليه قيادة الجيش، وألويته، وكتائبه وسراياه؛ وهي في نفس الوقت موجهة إلى رأس الهرم في السلطة سواء كانت ضمن المصطلحات الإسلامية كالوالي والخليفة أو سواء كانت ضمن المصطلحات المعاصرة في الدولة والحكومة والجمهورية، فضلاً عن المصطلحات القديمة (المعاصرة) كالمملكة والإمارة والسلطة.
أما ما يخص رأس الهرم في القيادة للبلد والرعية فكانت توصياته تعم جميع صنوف الجيش وقياداته وأفراده وشد روابط النسيج الاجتماعي والرعويّ فيما بين الحاكم والرعية الذين أنيطت بهم مهمة الدفاع والقتال والجهاد والأمن، فقال عليه السلام موضحاً هذه المرتكزات؛ بما يلي:
1 - أن يكون الحاكم أو الوالي ناظراً إلى الجند، وقياداتهم مرتكزاً في نظره إليهم على مجموعة من السمات التي ينبغي توافرها لدى الحاكم أو الوالي، فقال عليه الصلاة والسلام:
أ: «من واساهم في معونته»، أي: من واسى الجند في معونته لهم.
ب: «وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم، ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم».
والحكمة في هذه السمات تحقّق الثمرة الآتية، وهي: أن يكون هم الجند وقياداتهم هما واحداً، ألا وهو جهاد العدو، وهذا أولاً.
والثمرة الثانية: إن عطف الوالي أو الحاكم على الجيش يحقق عطف قلوبهم على الوالي أو الحاكم.
وهذه السمات التي مرّ ذكرها سواء ما اختص منها في القائد المنوط إليه قيادة الجيش أو التي كانت مختصة في الوالي أو الحاكم نراها متجسدة في رموز عاشوراء ابتداءً من القائد الأعلى وهو الإمام الحسين عليه السلام أو قادة الجناحين من الميمنة والميسرة أو القلب أو الأفراد كما سيمر بيانه.
فضلاً عن ذلك فإن الدراسات المعاصرة سواء ما كان منها مختصاً بالجانب الميداني والعسكري ودراسته، أو خاصاً بعلم النفس العسكري فقد أوردت بعض هذه السمات في دراستها؛ ولو أنّ الدارسين المعاصرين قد اطّلعوا على الفكر الإمامي بشكل خاص والفكر الإسلامي بشكل عام لوجدوا الكثير مما فاتهم في وضع الأسس لإنشاء قيادة متميزة وفعالة وناجحة، ولأثراهم هذا السِفْر الخالد عن الكثير مما اعتمدوا عليه من تراث كلاوزفيتز وكتابه (عن الحرب) أو رجوعهم إلى تراث سان تزو، الذي كتب في القرن الخامس قبل الميلاد وغير ذلك مما ظهر من بعض القادة العسكريين كـ(هانيبال) قائد قرطاجة، وكيف غزا إيطاليا (218 ق.م) عبر قمم الألب.
أو ما قام به الإسكندر المقدوني في حروبه، أو ما جرى بين الفرس والبيزنطنيين وانتصار بيليزير، وغير ذلك من الحروب التي جرت في القرون الوسطى أو المعاصرة فهذه القيادات وما قدمته من ملاحظات لم تتعدَّ كونها أقنية من تراث كلاوزفيز بالدرجة الأولى مما أعطى ظلامة للفكر الإسلامي وما قدم من فنون في العلوم العسكرية في شرق الأرض وغربها؛ فضلاً عن المعركة الأنموذج في قيادتها وأفرادها وقتالها وإستراتيجيتها ومأساتها، ألا وهي واقعة الطف[6] .
الهوامش:
[1] نهج البلاغة، الخطبة: 185 ، بتحقيق صبحي الصالح: ص269
[2] نهج البلاغة الخطبة: 2
([3]) نهج البلاغة، في عهده إلى مالك الأشتر: ج3، ص92.
([4]) المصدر السابق.
([5]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج3، ص161.
[6] [6] لمزيد من الإطلاع ، ينظر: الاستراتيجية الحربية في معركة عاشوراء بين تفكير الجند وتجنيد الفكر ، السيد نبيل الحسني : ص 46 – 51 ، أصدار العتبة الحسينية المقدسة ، ط 1/ مؤسسة الأعلمي –بيروت ، لسنة 2014م – 1435هـ