الأخلاق من نهج البلاغة تقيمه عليه السلام للدنيا بعد أن سمع رجلاً يذمها

مقالات وبحوث

الأخلاق من نهج البلاغة تقيمه عليه السلام للدنيا بعد أن سمع رجلاً يذمها

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 10-01-2023

بقلم: الشيخ محسن علي المعلم

((الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على هداة الخلق إلى الحق، محمد وآله الطاهرين))

وبعد:
قال عليه السلام وقد سمع رجلاً يذمّ الدنيا:
«أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا، المُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا، المَخْدُوعُ بِأَبَاطِيلِهَا! أَتَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا؟ أَنْتَ المُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا، أَمْ هِيَ المُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ؟ مَتَى اسْتَهْوَتْكَ أَمْ مَتى غَرَّتْكَ؟ أَبِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى؟ كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ، وَكَمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ! تَبْتَغِي لَهُمُ الشِّفَاءَ، وَتَسْتَوْصِفُ لَهُمُ الْأَطِبَّاءَ، غَدَاةَ لاَيُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ، وَلاَ يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ. لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ وَلَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطِلْبَتِكَ وَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ! قَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ وَبِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ. إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنىً لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنْ اتَّعَظَ بِهَا. مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللهِ، وَمُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اللهِ، وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللهِ، اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ. فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا وَنَادَتْ بِفِراقِهَا، وَنَعَتْ نَفْسَهَا وَأَهْلَهَا، فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلاَئِهَا الْبَلاَءَ، وشَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إلى السُّرُورِ؟! رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ وَابْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ، ترغِيباً وَتَرْهِيباً، وَتَخْوِيفاً وَتَحْذِيراً، فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ، وَحَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ذَكَّرَتْهُمُ الدُّنْيَا فتَذَكَّرُوا، وَحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا، وَوَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا»[1].
والإمام عليه السلام بنظرته الثاقبة، وكشفه الواقعي لحقيقة (الدنيا) ومفهومها يقدم التصور ويصحح المفهوم الخاطئ الذي انطبع في أذهان الكثير حول (الدنيا) والقاء اللائمة عليها حتى كأنها ليس لها سمة الا الفتنة منها، والهيمنة والأسر وفي ذلك الخلط بين واقعها هي في ذاتها وبين المنشدين اليها والمتعلقين بها وعلة ذلك عدم النظر بموضوعية إلى جوهرها وواقعها، ولاسيما في فكر وعين الزاهدين فيها المعرضين عنها.
وهنا يتجلّى عمق بيان الإمام النافذ، وتحليله الدقيق، وتجليته الواقعية باستيعاب التأمل في كافة شؤونها، ولا سيما في المواطن الخفية لدى الكثير وفد أفاد عليه السلام في بيانه ما يلي:

أولاً: ضعف النفس والنظرة الضيقة:
فمن هو الذام للدنيا ولاعنها؟ انه المفتون بها، غرته فاغتر، وخدعته فانخدع، وقد علم بأباطيلها وزخرفها، فاللائمة عليه، والتبعة تخصه، فلو عقل مغرياتها لما جذبته، ولو حذر منها لما فتنته.

ثانياً: الوجه الآخر موطن التبصر والاعتبار:
فلماذا الاقتصار على الاغترار؟! وأيامها مسرح للأحزان والأشجان: ابتلاء بفقد أعز عزيز وأحب قريب. يشهد من يحيى فيها مصارع آبائه، ويودع في الثرى أمه التي ولدته، ويشقى بكرب أعز أهل مودته، ويسعى لإسعافهم جهد طاقته فلا ينفعهم همه، ولا يجديه سعيه وألمه، ولا يملك من أمره وأمرهم إلا بسخي دمعه حيث لا يعيد ميتاً ولا يشفي مريضاً.

ثالثاً: داؤك ودواؤك:
إنه الابتلاء المحيط بصاحبه في أعز الأنفس عليه وهي نفسه، فلئن كان يعالج مصائب ومصارع أمه وأبيه فهو الآن يصارع مرض نفسه، ويغص بريقه فهو المبتلى كما كانوا مبتلين والممتحن كما كانوا ممتحنين، وهو العاجز لا يدفع مرضاً ولا يمنع موتاً [2].

الهوامش:
[1] م 131 /492-493.
[2] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأخلاق من نهج البلاغة: الشيخ محسن علي المعلم، العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط1، ص 105-107.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.8159 Seconds