بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي
الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
اما بعد:
ورد هذا اللفظ في عشرين موضعا من النَّهْج، دالاً على معنيين:
القبضُ الحقيقي (المادي): ويعني حيازة الشيء وجمعه في الكف من مالٍ أو غنيمة، جاء هذا النوع في صيغة الأمر(اقْبِض) في قولهِ إلى عامله على الصَدَقات «فاقبض حق الله منه فان استقالك فأقله»[1]، واتصل بتاء الفاعل، وذلك في» تَقُولُونَ: «الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ ! قَبَضْتُ كَفِّي فَبَسَطْتُمُوهَا، وَنَازَعَتْكُمْ يَدِي فَجَاذَبْتُمُوه»[2]. وجاء الفعل (تقبض) ليدلُّ على خلقة الجرادةفي قوله (عليه السلام): «وَجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ، وَفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ، وَجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ، وَنَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ، وَمِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ، يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهمْ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا» [3].
2) القبضُ المجازي: ورد في خطب الإمام (عليه السلام) قاطبةً، عدا صيغة فعل الأمر(اقبض)، إذ إنزاح المعنى الحقيقي إلى المجازي. وأسنِد الفعل (أقبِضُ) إليه في قوله: «مَا هِيَ إِلاَّ الكُوفَةُ، أقْبِضُهَا وَأَبْسُطُهَا، إنْ لَمْ تَكُوني إِلاَّ أَنْتِ، تَهُبُّ أَعَاصِيرُك»[4]. والاستثناء هنا مفرغ وفيه توكيد باسلوب النفي والاستثناء، فقد قصر المدن والممالك او الأقطار على الكوفة، ومعنى (أقبضها وأبسطها) أتَصَرفُ فيها، ف(ما) نافية وهي: ضمير القصة مبتدأ، والكوفة: خبر، وجملة أقبضُها خبر لمبتدأ محذوف انا أقبضها، والمرجع لكلمة (هي) هو المملكة، والمعنى: ما مملكتي إلاَّ الكوفة. وجاءت المقابلة اللغوية بين الفعل المضارع المسند إلى المتكلم المفرد بمثله (أقْبِضُهَا، أبْسُطُها)، وكانت اكثر الاقطار الاسلامية في تصرف الإمام (عليه السلام) ماعدا الشام ثم إنتزعها الخصوم، وبقي فيما بقي الكوفة، فحقَّرها الإمام (عليه السلام): « ماهي الا الكوفة» أي ليست بشيء إلى غيرها ؛ ففيها غار ابو مريم في جيش المرتزقة، فأرسل الإمام (عليه السلام) جنوده لحربه فهزمهم، واضطَّر الإمام (عليه السلام) أن يخرج اليه بنفسه فقتله ومن معه، فـ(أقبضها وأبسطها) كنايتان عن وجوه التصرف فيهما، فوجوه التصرف حقير بالنسبة الى سائر البلاد عدم التمكن التام منها[5].
و القَبْضُ: جمعُ الكَفِّ على الشَّيءِ، وهو ماجُمِعَ من الغنائم فأُقي في قَبَضِه أي مُجْتَمَعِه[6].
قال ابنُ فارس: « القاف والباء والضاد أصل واحد صحيح يدلّ على شيء مأخوذ، وتجمع في شَيء تقول: «قَبَضْتُ الشَّيء من المالِ وغيره قَبْضَا»[7].
ويعني: أخذ الشيء بجميع الكَفِّ، وقبضه عن الشيء جمعه قبل تناوله وهذا إمساك عنه[8]، وهو حيازةُ الشَّيء والتمكنُ من التصَّرفِ فيه، سواء أكان مما يمكن تناوله باليد ام لم يمكن[9].)[10].
الهوامش:
[1] نهج البلاغة: ك 25، 283.
[2] خ 137، 139.
[3] نهج البلاغة: خ 23، 29.
[4] خ 25، 30.
[5] ظ: اسلوب علي بن ابي طالب في خطبه الحربية: 192.
[6] ظ: العين (مادة قبض): 5 / 53.
[7] مقاييس اللغة: 5 / 50.
[8] ظ: النهاية في غريب الحديث والأثر: 728.
[9] ظ: معجم المصطلخات المالية والاقتصادية في لغة الفقهاء: 358.
[10]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 131-133.