بقلم: د. الشيخ محسن الخزاعي- جامعة الكوفة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين أساس الدين وعماد اليقين.
أما بعد:
هذا البحث يُعدُّ من أهم الأبحاث القرآنية، وقد أشارت إليه آيات كثيرة في الكتاب العزيز كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}([1]) وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}([2]) وكذلك قوله سبحانه: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}([3])، وغير ذلك من الآيات، فهو مظهر من مظاهر الجهاد في سبيل الله، بل هو الجهاد الأكبر إذا توجه به الإنسان نحو نفسه فوعظها وأمرها بالمعروف ونهاها عن المنكر كما يظهر من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يرويه عنه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية، فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر قال: جهاد النفس ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه"([4]).
فهو فريضة يتوقف عليها صلاح الفرد وصلاح المجتمع، وتترتب على تركه آثار وخيمة، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين في لحظاته الأخيرة أنَّه قال: "لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم"([5]).
فمن هنا تتجلى لنا أهمية هذه الفريضة، وانشغال الذمة بها، فلعلَّ العقل يحكم بوجوبها قبل النقل؛ وذلك لما للمنكر من آثار سيئة لا تنحصر في نقطة وقوعها، بل تتعداها إلى العلاقات الاجتماعية، إذْ يمكن ﹶسراية شرارته إلى كلّ نواحي المجتمع، فتتضح بذلك الأهمية العقلية لهاتين الوظيفتين.
ولهذا يؤكد العقل والمنطق السليم لأفراد المجتمع بأنْ لا يألوا جهداً في الإبقاء على سلامة البيئة الاجتماعية وطهارتها من كلّ دنس، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "مَثَلُ القائم على حدود الله والمدهن فيها كمثل قوم اسْتَهَموا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها... فقال الذين في أسفلها: إنَّنا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإنْ أخذوا على أيدهم فمنعوهم نجوا جميعاً، وإنْ تركوهم غرقوا جميعاً"([6]).
ولقد جسد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المثال الرائع موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنطقية هاتين الفريضتين بغض النظر عن أمر الشارع بهما.
لذلك حظي هذا الموضوع باهتمام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فقد روي عنه أنه قال: "وَلَا تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إلا بِطَاعَتِهِ لَعَنَ اللَّهُ الآمرين بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَهُ وَالنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ"([7]).
وقال أيضاً: "وما أعمال البر كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجيﹼ"([8]).
فقد استدل الشيخ مكارم الشيرازي بهذه الخطبة على أهمية فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد أنْ أورد بعضاً من كلام الإمام عليه السلام في أهمية هذه الفريضة التي لا تساوي أعمال البر بالقياس بها إلا كنقطة في بحر لجي([9]).
وقد اكتفى المفسر بإيراد هذه الكلمات من خطبة الإمام عليه السلام وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأولَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}([10]).
الأمر الذي يظهر بشكل واضح عدم استغناء المفسر لاسيما المفسر الإمامي عن نهج البلاغة وذلك على كل المستويات.)[11].
الهوامش:
([1]) آل عمران، 140.
([2]) آل عمران، 110.
([3]) آل عمران، 114.
([4]) جواهر الكلام، الشيخ الجواهري، (ت 1266هـ)، تحقيق: الشيخ عباس القوچاني، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ط / 2، 1362 ش، 21/ 351.
([5]) نهج البلاغة، 3/77.
([6]) مسند احمد، الإمام احمد بن حنبل، (ت241هـ )، دار صادر ـ بيروت ـ لبنان (د.ت)، 4/ 268، ظ : مواهب الجليل، الحطاب الرعيني، (ت 954هـ)، تحقيق : زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، 1416هـ ـ 1995 م، 7/ 72.
([7]) نهج البلاغة، 2/ 12.
([8]) نهج البلاغة، 4/ 89.
([9]) ظ :الأمثل، 2/ 628 ـ 633.
([10]) آل عمران، 104، وظ : الأمثل، 2/ 628 ـ 633.
([11] )لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، الشيخ محسن الخزاعي، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 187-190.