الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 09-04-2023

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
قال عليه السلام في خطبة يذم فيها الدنيا، فيقول:
وأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ، ولَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ، قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا، وغَرَّتْ بِزِينَتِهَا، دَارُهَا[1] هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا فَخَلَطَ حَلَالَهَا بِحَرَامِهَا، وخَيْرَهَا بِشَرِّهَا وحَيَاتَهَا بِمَوْتِهَا، وحُلْوَهَا بِمُرِّهَا، لَمْ يُصْفِهَا اللَّه تَعَالَى[2] لأَوْلِيَائِه، ولَمْ يَضِنَّ بِهَا عَلَى أَعْدَائِه، خَيْرُهَا زَهِيدٌ وشَرُّهَا عَتِيدٌ، وجَمْعُهَا يَنْفَدُ ومُلْكُهَا يُسْلَبُ وعَامِرُهَا يَخْرَبُ، فَمَا خَيْرُ دَارٍ تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءِ، وعُمُرٍ يَفْنَى فِيهَا فَنَاءَ الزَّادِ، ومُدَّةٍ تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّيْرِ؟! اجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللَّه عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِكُمْ واسْأَلُوه مِنْ أَدَاءِ حَقِّه مَا سَأَلَكُمْ، وأَسْمِعُوا دَعْوَةَ الْمَوْتِ، آذَانَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى بِكُمْ.
 إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وإِنْ ضَحِكُوا، ويَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وإِنْ فَرِحُوا، ويَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وإِنِ اغْتَبَطُوا بِمَا رُزِقُوا.
 قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِكُمْ ذِكْرُ الآجَالِ، وحَضَرَتْكُمْ كَوَاذِبُ الآمَالِ، فَصَارَتِ الدُّنْيَا أَمْلَكَ بِكُمْ مِنَ الآخِرَةِ، والْعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِكُمْ مِنَ الآجِلَةِ، وإِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللَّه، مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلَّا خُبْثُ السَّرَائِرِ، وسُوءُ الضَّمَائِرِ، فَلَا تَوَازَرُونَ ولَا تَنَاصَحُونَ، ولَا تَبَاذَلُونَ[3] ولَا تَوَادُّونَ.
مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَه،[4] ولَا يَحْزُنُكُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الآخِرَةِ تُحْرَمُونَه! ويُقْلِقُكُمُ[5] الْيَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ، وقِلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ مِنْهَا عَنْكُمْ؟! كَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ وكَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَيْكُمْ.
 ومَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاه بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِه، إِلَّا مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَه بِمِثْلِه.
 قَدْ تَصَافَيْتُمْ عَلَى رَفْضِ الآجِلِ وحُبِّ الْعَاجِلِ، وصَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً عَلَى لِسَانِه، صَنِيعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِه وأَحْرَزَ رِضَى سَيِّدِه[6].

شرح الألفاظ الغربية:
القلعة – بضم القاف وسكون اللام – ليست بمستوطنه؛ النجعة: بضم النون – طلب الكلأ في موضعه، أي ليست محط الرحال ولا مبلغ الآمال؛ عتيد: حاضر؛ اغتبطوا: بالبناء للمجهول، غبطهم غيرهم بما آتاهم الله من الرزق؛ زوي: من زواه إذا نحاه؛ عبر اللعقة: عن الإقرار باللسان مع ركون القلب إلى مخالفته[7].

شرح ابن ميثم البحراني:
في هذا الفصل نكت:
الأولى: التحذير من الدنيا والاستدراج إلى تركها بذكر معايبها، وذلك من أول الفصل إلى قوله: ((انقطاع السير)).
فأشار أولاً: إلى أنها لا تصلح للاستيطان وطلب الكلاء، وكنى به عما ينبغي أن يطلب من الخيرات الباقية، التي هي محل الأمن والسرور الدائم.
وثانياً: إلى أن زينتها سبب لاستغفالها الخلق؛ والاغترار بها سبب لاستحسانها.
فإن قلت: فقد جعل الزينة سبباً للغرور، والغرور سببا للزينة، وذلك دور.
قلت إنما جعل الزينة سبباً للاستغرار، والغرور سبباً لاستحسانها وعدم التنبه لمعائبها  فلا دور.
وثالثاً: إنها ((هانت على ربها)): أي لم تكن العناية الإلهية إليها بالذات فلم تكن خيراً محضاً، بل كان كل ما فيها مما يعد مشوباً بشر يقابله، وذلك بحسب الممكن فيها وزهادة خيرها بالنسبة إلى خير الآخرة.

الثانية: التأديب بأوامر:
أحدها: أن يجعلوا فرائض الله عليهم من جملة ما يطلبونه منه، والغرض أن تصير محبوبة لهم كمحبتهم لما يسألونه من مال وغيره فيواظبوا على العمل بها.
الثاني: أن يسألوه أداء حقه عنهم وذلك بالإعانة والتوفيق والإعداد لذلك، كما سألهم أداء حقه، والغرض أيضاً أن يصير الأداء مهماً لهم محبوباً إليهم، ونحوه في الدعاء المأثور: ((اللهم إنك سألتني من نفسي ما لا أملكه إلا فأعطني منها ما يرضيك عني[8].
الثالث: أن يسمعوا داعي الموت أذانهم: أي يقصدون سماع كل لفظ يخوف الموت وأهواله، وذلك بالجلوس مجالس الذكر ومحاضرة الزاهدين في الدنيا، وفائدة ذكر الموت تنغيص اللذات الدنيوية كما قال عليه السلام: أكثروا ذكر هادم اللذات[9].
الثالثة: شرح حال الزاهدين في الدنيا ليهتدي  من عساه أن ينجذب إلى الله إلى كيفية طريقتهم فيقتدى بهم. فذكر لهم أوصافاً.
الأول: أنهم تبكي قلوبهم وإن ضحكوا؛ وذلك إشارة إلى دوام حزنهم لملاحظتهم الخوف من الله فإن ضحكوا مع ذلك فمعاملة مع الخلق.
الثاني: إنهم يشتد حزنهم وإن فرحوا، وهو قريب مما قبله.
الثالث: أنه قد يكثر لبعضهم متاع الحياة الدنيا ولكنهم يتمردون على أنفسهم فيتركون الالتفات إليها بالزينة وطاعتها فيما تدعوهم إليه من متاع الحياة الدنيا الحاضرة وإن غبطهم غيرهم بما قسم لهم من رزق.
الرابعة: تعنيف السامعين على ما هم عليه من الأحوال المضرة في الآخرة، وذلك بالغفلة عن ذكر الأجل واستحضارهم للآمال الكاذبة وغيرها من الأحوال المذكورة إلى آخر الفصل.
ومحل – ((تدركونه وتحرمونه ويفوتكم)): النصب على الحال.
((وقلة صبركم)): عطف على وجوهكم: أي حتى يتبين ذلك القلق في وجوهكم وفي قلة صبركم عما غيب عنكم منها.
وقوله: ((وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه...)) إلى آخره.
أي ما يمنع أحدكم من لقاء أخيه لعيبه ولائمته عليه إلا الخوف منه أن يلقاه بمثله لمشاركته إياه فيه، كما صرح به في قوله: ((تصافيتم على رفض الآجل...)) إلى آخره.
واستعار لفظ اللعقة لما ينطق به من ش عار الإسلام والدين، كالشهادتين ونحوهما من دون ثبات ذلك في القلب ورسوخه والعمل على وفقه.
((وصنيع)): نصب على المصدر: أي صنعتم صنيعاً مثل صنيع من أحرز رضا سيده بقضاء ما أمره به.
ووجه التشبيه: الاشتراك في الترك والإعراض عن العمل، وبالله التوفيق[10].)([11]).

الهوامش:
[1] كلمة (دار): ليست في شرح نهج ابن ميثم ونهج محمد عبده؛ وهي في نهج صبحي صالح: (دارها).
[2] كلمة (تعالى): ليست في نهج الشيخ العطار.
[3] في شرح نهج ابن ميثم ونهج محمد عبده: (تبادلون) بدل (تباذلون).
[4] في شرح نهج ابن ميثم ونهج محمد عبده: (تملكونه) بدل (تدركونه).
[5] في شرح نهج ابن ميثم ونهج محمد عبده: (ويقلقكم) بتشديد الدال وكسرها.
[6] نهج البلاغة لصبحي صالح: 167 – 168/ خطبة رقم 113، وهي في نهج البلاغة للشيخ العطار:222/ خطبة رقم 112، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 92-93/ خطبة رقم 110، ونهج البلاغة لمحمد عبده 1: 239-240.
[7] شرح الألفاظ الغريبة: 617.
[8] كنز العمال 2: 694/5110.
[9] عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 75/325، دعوات الرواندي: 238.
[10] شرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 94-95/ شرح الخطبة رقم 110.
([11]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 115-120.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2353 Seconds