حالة المجتمع الكوفي في فكر الإمام علي (عليه السلام) ثانياً- موقفه عليه السلام من العصبية القبلية

مقالات وبحوث

حالة المجتمع الكوفي في فكر الإمام علي (عليه السلام) ثانياً- موقفه عليه السلام من العصبية القبلية

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 27-02-2024

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
استشرت العصبية في مجتمع الكوفة وفي غيره من المجتمعات الإسلامية، وقد اجج لهيبها وأحياها في النفوس، ما احدثه ولاة عثمان الأمويون من احداث في الأمصار حين عدوا أنفسهم طبقة خاصة لها امتيازاتها[1]، فاستحالت العصبيات القبلية إلى تيار جارف لا يمكن الحد منه والتصدي له، إذ انها اسدلت بحجبها المقيتة على الحق كل سبيل. فالأشعث بن قيس[2]، احد زعماء اليمانية في الكوفة، يقوده التعصب الأعمى ليمانيته إلى فرض أبي موسى الاشعري ليمثل أهل العراق في التحكيم لأنه يماني ليس غير، ولا تهمه بعد ذلك النتائج التي سينجر عنها ذلك الاختيار، فحين رشح علي عليه السلام عبد الله بن عباس للتحكيم عارضه الاشعث مقسما «لا والله لا يحكم فيها مضريان... والله لأن يحكما ببعص ما نكره وأحدهما من أهل اليمن، احب الينا من ان يكون بعض ما نحب في حكمها وهما مضريان»[3]. ثم ان التنافس على المكانة الأثيرة عند الخليفة والنزول على طاعته مرتبط عند الزعامات بالعصبية القبلية. إذ لما حاول معاوية اشعال نار الفتنة بالبصرة لإخراجها عن طاعة علي عليه السلام سنة ثمان وثلاثين[4]، انقسمت فيها القبائل العربية على قسمين أحدهما ظل على بيعته لعلي عليه السلام، والآخر انضم إلى معاوية، وقد انحازت قبيلة تميم إلى جانب معاوية، وعاضدت رسوله وعامله عبد الله بن الحضرمي[5]على زياد بن ابيه[6]، عامل علي عليه السلام على البصرة نيابة عن عبد الله بن عباس في أثناء غيابه عنها، فلما أحس التميميون في الكوفة بنية علي عليه السلام على ارسال قوة معظم رجالها من الأزد لإخماد الفتنة، أرسلوا إليه شبث بن ربعي التميمي[7] ليحول دون ذلك بوصفه الإزد بالبعداء البغضاء، فلم يتمالك مخنف بن سليم الأزدي[8]ـ وفي محضر علي عليه السلام ـ ان يرد عليه بقول «ان البعيد البغيض من عصى الله وخالف أمير المؤمنين، وإن الحبيب القريب من أطاع الله ونصر أمير المؤمنين وهم قومي وأحدهم خير لأمير المؤمنين من عشرة من قومك»[9] فمن تلك المشادة يمكن استخلاص ما تنضح به نفوس الزعامة القبلية عصبية، ومحاولة الاستئثار بالمكانة السامية في نفس الخليفة عن طريق الخدمات المغموسة حتى نهايتها في تلك العصبية المقيتة. لقد بلغت العصبية ذروتها وكشرت عن أنيابها في أواخر خلافة علي عليه السلام. بحيث «كان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل أخرى، فينادي باسم قبيلته: يا للنخع مثلاً، أو يا لكندة، نداءً عالياً يقصد به الفتنة واثارة الشر»[10].

لقد بذل علي عليه السلام كل ما في وسعه من جهد لإخماد تلك العصبية، والعودة بالعرب إلى ما جاء به الإسلام من أخوة، واستخدم من أجل ذلك كل ما لديه من الاساليب المتاحة المشروعة من ذلك محاولته الغاء المواطنة المبنية على أساس الانتماء القبلي، بفك العلاقة بين الفرد وبين الزعامة القبلية عن طريق المساواة بين الناس في الحقوق[11]، وبالدعوة إلى مقاومة تلك الدعوات الهدامة، وإبادتها من النفوس بالقوة كما في قوله «إذا رأيتم الناس بينهم الثائرة، وقد تداعوا إلى العشائر والقبائل، فاقصدوا لمهامهم ووجوههم بالسيف حتى يفزعوا إلى الله وإلى كتابه وسنّة نبيه، فأما تلك الحمية من خطرات الشيطان فانتهوا عنها»[12]. ولإحساسه الملح بالحاجة إلى تلاحم الأمة الإسلامية في ظروفها الصعبة التي تعيشها، وهي على مفترق الطريق بين الخلافة الدينية وبين الملك العضوض لجأ أيضاً إلى كتابة حلف بين أهل اليمن، وبين ربيعة من أهم بنوده «أنهم على كتاب الله، يدعون، ويأمرون به، ويحيون من دعا إليه وأمر به، ولا يشترون به ثمناً قليلاً، ولا يرضون به بديلاً، وانهم يد واحدة...»[13]. ويبدو ان أسلوبه في مناهضة الزعامات القبلية ومواقفته لطموحاتها لم يرق للكثير، فأخذوا يتسللون[14] إلى معاوية جريا وراء المادة، وإشباع غرور التسلط الذي مكنهم منه معاوية ولكنا علياً عليه السلام -كما يبدو- وقد نجخ نجاحاً جزئيا في مساعيه للقضاء على تلك العصبية، فقد تمكن بعد كفاح مرير أن يجمع شتات المجتمع مرة ثانية ويعدهم للمسير إلى معاوية، إذ يحدثنا التاريخ أنه في أيامه الأخيرة، قد أفلح في جمع كلمة المسلمين، وتوحيد صفوفهم، ومكنه ذلك من أن يعقد «للحسين عليه السلام في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف ولغيرهم على أعداد أخر، وهو يريد الرجعة إلى صفين، فما دارت الجمعة حتى ضربه... ابن ملجم... فتراجعت العساكر (فكانت) كالأغنام التي فقدت راعيها، تتخطفها الذئاب من كل مكان[15].)([16]).

الهوامش:
[1] راجع ص 230 وما بعدها من هذا البحث.
[2] راجع ترجمته في هامش ص 277 من هذا البحث.
[3] ابن مزاحم ـ صفين ص 500.
[4] راجع بشأن ذلك ـ تاريخ الطبري 5/110 وما بعدها، وابن أبي الحديد 4/34 وما بعدها.
[5] عبد الله بن عامر بن الحضرمي استعمله عثمان على مكة وبقي والياً عليها حتى قتل عثمان سنة خمس وثلاثين، وهو من اوائل الذين استجابوا لعائشة في تحريضها على نكث بيعة علي عليه السلام، شارك في حرب الجمل، ثم لجأ بعد الهزيمة إلى معاوية الذي أرسله سنة ثمان وثلاثين لأثارة الفتنة بالبصرة لإخراجها عن طاعة علي عليه السلام، فلقي حتفه هو وجماعة من أنصاره حرقاً على يد جارية بن قدامة السعدي أحد أصحاب علي عليه السلام المخلصين. راجع ـ ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/95، 106، 182.
[6] زياد بن أبيه: وقيل تارة زياد بن امه، ولما أستلحقه معاوية قال أكثر الناس زياد بن أبي سفيان، وكان قيل استلحاقه ينسب لأبيه عبيد، الذي كان عبداً، وبقي حياً حتى أيام زياد في الرق، فابتاعه واعتقه، كان زياد شجاعاً فصيحاً، وتجلت مواهبه منذ أيام عمر بن الخطاب واستعمله علي عليه السلام على إقليم فارس تحول إلى معاوية إثر مقتل علي عليه السلام، بعد أن أستلحقه، وولاة العراقيين، البصرة والكوفة وبقي فيها حتى وفاته في سنة 53 هجرية ـ راجع ترجمة كاملة عند: ابن عبد البر الاستيعاب بهامش الإصابة 1/567، وشرح ابن أبي الحديد 16/179.
[7] شبث بن ربعي التميمي اليربوعي: بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة ـ أحد الأشراف الفرسان، كان ممن خرج على علي عليه السلام وانكر التحكيم، ثم تاب وأناب توفي سنة سبعين هجرية وكان فيمن قاتل الحسين بن علي عليه السلام في كربلاء ـ الإصابة 2/162.
[8] مخنف بن سليم الأزدي: له صحبة، وكان نقيب الأزد بالكوفة، استعمله علي بن أبي طالب عليه السلام على مدينة أصفهان، وشهد معه الجمل وصفين، وكانت معه راية الأزد يوم صفين وقد حدد الزركلي وفاته في سنة ست وثلاثين في وقعة الجمل والصواب انه توفي بعد معركة صفين أي بعد سنة سبع وثلاثين لأن ابن مزاحم في صفين ص 8 ـ يذكر وجوده ضمن أشراف الكوفة حين دخلها علي بعد حرب الجمل. وجاء في ص 104 كتاب من علي عليه السلام إلى مخنف بن سليم يدعوه فيه إلى القدوم إليه بالكوفة ليسير ضمن جيشه الذي جهزه لمحاربة معاوية. راجع: أسد الغابة 5/ 128، وأعلام الزركلي 7/194.
[9] ابن أبي الحديد 4/45.
[10] السابق 3/166، وقد رد علي عليه السلام تلك الأفعال بخطبة بليغة حلل فيها معاني العصبية اطلق عليها (القاصعة)، ذكرنا فقرات منها في ص 299 وبعدها من هذا البحث.
[11] راجع ص 317 ـ 318 من هذا البحث.
[12] ابن أبي الحديد 4/45.
[13] رسائل ـ 74.
[14] راجع رسائل ـ 70.
[15] خطب 184 ـ تعليق راويها في نهايتها، أما أبو أيوب الأنصاري فاسمه خالد بن زيد الأنصاري الخزرجي النجاري شهد سائر المشاهد كلها مع رسول اللهa، وكان مع علي بن أبي طالب عليه السلام ومن خاصته، شهد معه الجمل وصفين، وكان على مقدمته يوم النهروان، غزا أيام معاوية ارض الروم مع يزيد بن معاوية سنة احدى وخمسين وتوفي عند مدينة القسطنطينية ـ أسد الغابة 6/25. وعبد الرحمن بن ملجم المرادي، خارجي كان ضمن ثلاثة من الخوارج تعاقدوا في مكة على قتل علي عليه السلام ومعاوية وعمرو بن العاص، وتعاهدوا على القيام بذلك في شهر رمضان في الليلة التي قتل فيها علي عليه السلام وكان عبد الرحمن بن ملجم هو المتكفل بقتل علي عليه السلام، واستطاع ان يصل إلى غرضه، اما صاحباه وهما، البرك بن عبد الله التميمي، المتكفل بقتل معاوية وعمرو بن بكر التميمي المتكفل بقتل عمر و بن ا لعاص، فلم يفلحا، وقتل عبد الرحمن بن ملجم بعد وفاة علي عليه السلام سنة أربعين ـ مقاتل الطالبيين ص 43 وما بعدها.
([16]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 381-385.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2427 Seconds