بقلم: د. جليل منصور العريَّض
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
الاخوة في الإسلام تعني السلام والحب بأوسع معانيهما، والتكافل في جميع ميادين الحياة بين مختلف الفئات الاجتماعية، فأساس قوة المجتمع من وجهة نظر الإسلام التعاون على فعل الخير، ونبذ الشر طبقًا لقوله تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}([1]) وهي دعوة صريحة لا لبس فيها يهدف الإسلام منها تماسك البنية الاجتماعية بشد بعضها البعض، ولكن المجتمع الذي عاش علي عليه السلام ضمنه -فيما يبدو- لم يعرف أكثر أفراده من الإسلام الا اسمه([2])، فأصبحت النفوس تنضح بالخبث، واستكن السوء والشر والاستغلال في ضمائر الأقوياء، فانعدمت بسبب ذلك مقومات التكافل الاجتماعي المبني على حاجة الناس لبعضهم البعض، لكون طبيعة العمران تقتضي ذلك التعاون([3])، مما يعني ضمنا أن الترابط الاجتماعي ظاهرة فطرية في الإنسان، ولا يستطيع معرفة مدى قوتها أو ضعفها الا من خلال ممارسة الفرد لها داخل البناء الاجتماعي الذي يؤثر فيها سلباً وإيجاباً، ويعتبر التجانس([4]) من أهم العناصر التي تؤكد التكافل الاجتماعي في الفرد، ولما كان التجانس أنواعاً من حيث القومية ومن حيث اللغة، ومن حيث الطبقة الاجتماعية، فقد تصور علي عليه السلام -كما يبدو لنا- إن أنواع التجانس تلك كلها جانبية إزاء مفهوم الإسلام للتجانس الوارد في الآية الثالثة عشرة من سورة الحجرات، فالآية الكريمة تقر في مضمونها بأنواع التجانس، ولكنها تضعه كمقياس للرابطة الاجتماعية، لأن التعاون الذي هو أساس التكافل الاجتماعي هو القاعدة التي يرتكز عليها الإسلام في بناء المجتمع ويؤيد ما ذهب إليه من تفسير سياق الآية في قوله تعالى:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ}([5]). وإذا ما نحن تحولنا بفكرتنا تلك، لنسبر على ضوئها فكر علي عليه السلام إزاء الأسباب التي أدت إلى فصم عرى التكافل في مجتمعه، فسنجد ان ذلك يكمن في التناقض بين معرفة الأخوة الإسلامية وبين تطبيقها على صعيد الواقع، خاصة بالنسبة لأولئك العرب الذين يرون أنفسهم أفضل من غيرهم، ويمكننا استخلاص ذلك من قوله «إنما أنتم اخوان على دين الله، ما فرق بينكم الا خبث السرائر، وسوء الضمائر، فلا توازرون، ولا تناصحون ولا تباذلون ولا توادون»([6]) فأولئك الناس الذين يتحدث علي عليه السلام إليهم، يعرفون حقيقة الإسلام الاجتماعية، ولكنهم لا يعملون بتعاليمه، لأنها -كما يتهيأ لهم- تنقص من مصالحهم، وتحد من طموحاتهم، ولا تمكنهم من فرض نفوسهم كأسياد كل حسب منزلته الاجتماعية([7]).
لقد ولد ذلك التفتت في بنية المجتمع الإسلامي -في عهد علي عليه السلام- ظواهر اجتماعية خطيرة من ظلم وجوع وفقر واستبداد، فانجر عن تفشي تلك الظواهر بروز طبقة عريضة من عامة الناس الذين اسماهم علي عليه السلام بالهمج الرعاع لأنهم «أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح»([8]) وأولئك الناس يشكلون البنية التحتية للمجتمع من عمال وفلاحين وصناع وبنائين وخبازين ونساجين، وتوفير الفراغ لأولئك وعدم مراقبتهم في اعمالهم فيه مضرة للمجتمع، وهدم أركانه بنقص احتياجاته لأنهم كما يرى علي عليه السلام «اذا اجتمعوا ضروا»([9]) لما يحدثوه باجتماعهم من فوضى تسبب في زعزعة الأمن، واختلال النظام، وتعطيل الخدمات العامة، وحتى نجنب المجتمع ما ينجم عن اجتماعهم من مضرة، يتحتم على الحكومة تفريقهم لأنهم إذا تفرقوا نفعوا، لرجوع كل منهم إلى مهنته «فينتفع الناس بهم»([10]). ولكن ذلك لا يعني أن علياً عليه السلام برأيه ذاك يريد أن يجعل من أولئك طبقة دنيا همها الوحيد تهيئة احتياجات الطبقات العليا والسهر على مصالحها فهو لا يقصد من تفريقهم تفتيت الرابطة الاجتماعية، والقضاء على روح التعاون بين الفئات المختلفة، ولكنه يرمي من وراء ذلك التفريق اشغال كل فرد بتأدية واجبه تجاه غيره في مجتمع يصون الحقوق، وعلى ذلك فإن النظام ويحافظ على مصالح الجميع دون استثناء ولا تفضيل على ذلك فإن النظام الطبقي بمفهومه التمايزي يختلف اختلافاً جذرياً عن المفهوم الإنساني للطبقات الاجتماعية عند علي عليه السلام)([11]).
الهوامش:
([1]) المائدة /2.
([2]) راجع خطب ـ 240فقرة 20.
([3]) راجع ص 362 وما بعدها من هذا البحث.
([4]) راجع المواطنة في مفهوم علي عليه السلام ص 317 من هذا البحث.
([5]) الحجرات/13.
([6]) خطب 122، الفقرة الثانية ـ وتوازرون ـ بفتح التاء والواو ـ تتعاونون، وتباذلون ـ بفتح التاء والباء، تنفقون الأموال في الله على بعضكم البعض.
([7]) راجع ـ تصنيف الناس في فكر علي عليه السلام وطريقة تفكير كل صنف، خطب 32 الفقرة الثانية والثالثة.
([8]) حكم ـ 145.
([9]) حكم ـ 197.
([10]) حكم ـ 197.
([11]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 403-406.