بقلم: الدكتورة سحر ناجي المشهدي
الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
اما بعد:
تكرر في كلام الإمام (عليه السلام) ثلاث عشرة مرة، ليدل على:
1) المعنى الحقيقي: ورد هذا اللفظ في توجيه خطاب الإمام (عليه السلام) الى الموتى، وقد اشرف على القبور بظاهر الكوفة قائلاً: «يَا أهل التُّرْبَةِ، يَا أهل الْغُرْبَةِ، يَا أهل الْوَحْدَةِ، يَا أهل الْوَحْشَةِ، أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ سَابِقٌ، وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ لاَحِق» ([1]). فقوي المعنى بنسبة الموتى الى التراب، فقد استعمل الإمام (عليه السلام) النداء للصفات بالأداة (يا) وفيها نداء للبعيد. والصفات هي (أهل الديار الموحشة، أهل التربة، أهل الغربة) ويعني: أنتم أهل الديار وأنتم أهل التربة) وهنا انتقل الأسلوب من الإنشاء الى الخبر، وبَيَّن حدودا رسمها الخالق (الدُّور والأزواج والأموال) فالإنسان لابد له أن يتركها وراؤه، وأراد بـ(الديار الموحشة) التي أخلوها وارتحلوا منها، والمحال المقفرة: سكنوا غيرها وأهملوها ورائهم، والقبور المظلمة: بتراكم التُّرب عليها، ووضعوها في لحودهم، وبأهل التربة: المُغْبَرة أجسادهم بالتُّراب([2]).
يقول د. حسين العمري: «هنا لابدَّ من الإشارة الى هذه الصبغة الفنية التي توَشَّح بها النَّص، حيث السجع والتفصيل في إيضاح المطالب في النص الذي ضغطه الى أقصر ما يمكن على الرَّغم من أنَّه تعرض الى موضوعات عدة، إلاَّ أنَّه استطاع بقدرته الفذة على أعنة الكلام أن يحول خطابه الانطباعي هذا الى قطعة فنية تنسرب من بين أحرفها لوعة مكبوتة وأسى دفين، ولاسيما بعد أن استعمل النِداء في أول النص»([3]).
ومنها قوله في التذكير بعاقبة الناس، ومصيرهم. وقال عليه السلام: «ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الأرض وَسَهْلِهَا، وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا، تُرْبَةً سَنَّهَا بالمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ، وَلاَطَهَا بِالبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ»([4]). فقد أشار الى صورة خلق الإنسان، فأسند الجمع اليه تعالى من باب التوسع في الإسناد، ووقع الإعتراض في قوله (من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها) بين الفعل والفاعل من جهة (جمع) الفعل والمفعول به (تربة) من جهة ثانية فوظيفة الإعتراض إيضاحية يكتمل بها المعنى، ويتحقق في الدَّلالة إشباع يبين نوع ماجمع من تربة مما هو مختلف ويشكل ثنائية متضادة ترتبط بها طبيعة الإنسان على إختلاف ما يتصل بها وما يصدر عنها من أفعال وسلوكيات.
فأراد الإمام (عليه السلام) أن يقدم الأصل التكويني للتربة قبل إكتمال هويتها، مع ملاحظة أنَّ هذا الجمع تمَّ من مناطق متعددة إنطلاقا من إختلاف أنواعها فلا تكون التربة المجموعة من الله سبحانه وتعالى من موضع واحد، ممَّا يساعد على تضييق المعنى، وهو جعل الفكرة تصل بشكل عام، والإختلاف كان مقدما على أصل التراب وهو أصل الإنسان والمكون له، لذا بادر المتكلم الى تقديم الإختلاف التكويني قبل اكتمال الجملة التي بها تمام المعنى، فالمبدع قدم ماهو أولى بالعناية والتقديم، وهناك أفق تأويلي آخر، إذ نجد ما هو أخفُّ أثراً وأكثرُ رشاقةً ([5]).
2) المعنى المجازي، فلفظ (تَرِبَ) وهو يحمل معنى الدُّعاء بالذَّم مسندا الى تاء الفاعلة الدَّالة على الأيدي ورد مرة واحدة وذلك في قوله: «يَاأهل الْكُوفَةِ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلاَث وَاثنَتَيْنِ: صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاع، وَبُكُمٌ ذَوُو كَلاَم، وَعُمْيٌ ذَوُو أَبْصَار، لاَ أَحْرَارُ صِدْق عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَة عِنْدَ الْبَلاَءِ! تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ! يَا أَشْبَاهَ الاْبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا! كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ»([6]).
فإسلوب النداء واضح لأهل الكوفة واستعمل النداء للبعيد، فتربت أيديكم: كأنك تقول: لَصِقَت أيديكم بالتراب، كلمة مجازية، تعني أماتهم الله حتّى لَصِّقوا بالتُّراب، أوأفقرهم حتّى لَصِّقوا بالتُّراب، وشبههم بالإبل؛ لِمَا فيهم من الجفاء والغلط عند فقد من يرعاها؛ فهي أكثر المواشي شرودا. ولعل الإمام (عليه السلام) أراد باستعماله نداء البعيد التهكم فيهم والسخرية منهم. وجاء هذا اللفظ على صيغة الاسم (التراب) وهو اسم جنس، ست مرات في النَّهْج، منها قوله في الأمم الماضية والتحذير من الدنيا قال: «وَأُنْزِلُوا الاْجْدَاثَ فَلاَ يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً، وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ أَجْنَانٌ، وَمِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ، وَمِنَ الرُّفَاتِ جِيرَانٌ، فَهُمْ جِيرَةٌ لاَ يُجِيبُونَ دَاعِيا»([7])، وفيها تعريف للزاهدين: يتخذون الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا، وهذه الأشياء من لوازم زهدهم في متاعها وتركها عن طيب نفس. التٌراب والتٌربُ واحد، وإذا انثوا قالوا: تُرْبَةٌ، وأرض طيبة التٌربة أي خلقة ترابها، فاذا أردت طاقة واحدة قلت: تُرابة واحدة، ومنه حديث علي (عليه السلام): «لَئِن وَليت بني أمية لَأنفضنًهم نفض القصاب الوزام التًرِبة»، وأترب: استغنى([8]).
يقول ابن فارس: «التاء والراء والباء اصلان: أحدهما التراب وما يشتق منه، والآخر تساوي الشيئين. فالأول التٌراب، وهو التًيْرب والتًوْراب. ويقال ترب الرجل إذا افتقر كأنه لصق بالتراب، وأترب اذا استغنى، كأنه صار له من المَّال بقدر التٌراب»([9]).
التِرب والتِربة جائزة في المؤنث ويجمع بـ(الأتراب): استغنى وكَثُر مالُهُ؛ فصار كالتُّرَاب ([10]).
وكـُنـِي الإمام علي (عليه السلام) بأبي تراب، كنَّاه بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكانت أحبُّ الكِنى إليه، وكان إذا نودي بها يُسَر لأمور منها؛ كونه يجد فيها نوعا من التواضع والتذلل لله، وكانت تذكره بملاطفة النبي معه في غزوة ذات العُشيرة، فكان يتوسد التراب بصحبة عمار بن ياسر([11]) أنت ابو تراب ([12]).
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾([13]). )([14]).
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة: الحكم القصار: 130، 372.
([2]) ظ: الديباج الوضي: 6 / 2822.
([3]) الخطاب في نهج البلاغة: 20.
([4]) نهج البلاغة: خ 1، 9.
([5]) ظ: المستويات الجمالية في نهج البلاغة: 142، وظ: منهاج البراعة: 2 / 35.
([6]) نهج البلاغة: خ 97، 99.
([7]) خ 111، 118.
([8]) ظ: العين (مادة ترب): 8 / 115.
([9]) مقاييس اللغة: 1 / 346.
([10]) ظ: معاني القرآن: الأخفش: 2 / 532.
([11]) ظ: موسوعة الإمام علي في الكتاب والسنة والتاريخ: 1 / 82.
([12]) تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر: 42 / 18.
([13]) النبأ / 40.
([14]) لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 223-227.