مباحث أخلاقية في عهد مالك الأشتر (رحمه الله). الحلقة السابعة: دلالة أمره (عليه السلام) الأشتر «أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَه مِنَ الشَّهَوَاتِ، ويَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ».

مقالات وبحوث

مباحث أخلاقية في عهد مالك الأشتر (رحمه الله). الحلقة السابعة: دلالة أمره (عليه السلام) الأشتر «أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَه مِنَ الشَّهَوَاتِ، ويَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ».

518 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 01-08-2024

بقلم: السيد نبيل الحسني.

في الأوامر التي تصدرها العهد لمالك الأشتر (رحمّه الله) ينقلنا النص الشريف إلى أمر جديد متعلق بالنفس الإنسانية وآلية تهذيبها عِبْر الكَسْرِ والوَزَعِ، وكسر النفس يكون بقهرها، وَوَزَعَها، أي منعها[1]؛ وقيل: يَزُعْها: يَكُفْهَا[2]
والجُمَحَات: من جمح الفرس بصاحبه إذا تمرد عليه[3].
وترشد صيغة الأمر في قوله (عليه السلام): «وأَمَرَه أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَه مِنَ الشَّهَوَاتِ، ويَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّه».
إلى بيان حقيقة النفس وأنَّ تجردها إنّما هو «التجرد في الذات دون الفعل لافتقارها فعلا إلى الجسم والآلة، فحدها أنها جوهر ملكوتي يستخدم البدن في حاجاته، وهو حقيقة الإنسان وذاته، والأعضاء والقوى آلاته التي يتوقف فعله عليها، وله، أي النفس أسماء مختلفة بحسب اختلاف الاعتبارات، فيسمى (روحا) لتوقف حياة البدن عليه و(عقلا) لإدراكه المعقولات و(قلبا) لتقلّبه في الخواطر، وقد تستعمل هذه الألفاظ في معان أخرى تعرف بالقرائن.
وله قوى أربع: قوة عقلية ملكية، وقوة غضبية سبعية، وقوة شهوية بهيمية، وقوة وهمية شيطانية.
و(الأولى): شأنها إدراك حقائق الأمور، والتمييز بين الخيرات والشرور، والأمر بالأفعال الجميلة، والنهي عن الصفات الذميمة.
و(الثانية): موجبة لصدور أفعال السباع من الغضب والبغضاء، والتوثب على الناس بأنواع الأذى.
و(الثالثة): لا يصدر عنها إلا أفعال البهائم من عبودية البهائم كعبودية الفرج والبطن، والحرص على الجماع والأكل.
و(الرابعة): شأنها استنباط وجوه المكر والحيل، والتوصل إلى الأغراض بالتلبيس والخدع»[4].

وقد جعل الله تعالى لكل قوة من القوى النفسية عدد من المهام تحقق الفائدة من وجودها في النفس «فالفائدة في وجود القوة الشهوية بقاء البدن الذي هو آلة تحصيل كمال النفس. وفي وجود الغضبية أن يكسر سورة الشهوية والشيطانية، ويقهرها عند انغمارهما في الخداع والشهوات، وإصرارهما عليهما، لأنهما لتمردهما لا تطيعان العاقلة بسهولة، بخلاف الغضبية فإنهما تطيعانها وتتأدبان بتأديبها بسهولة.

ولذا قال أفلاطون في صفة السبعية والبهيمية: (أما هذه أي السبعية فهي بمنزلة الذهب في اللين والانعطاف، وأما تلك، أي البهيمية فهي بمنزلة الحديد في الكثافة والامتناع). وقال أيضا: (ما أصعب أن يصير الخائض في الشهوات فاضلا، فمن لا تطيعه الواهمية والشهوية في إيثار الوسط فل يستعن بالقوة الغضبية المهيجة للغيرة، والحَمّية حتى يقهرهما) فلو لم يمتثلا مع الاستعانة فإن لم تحصل له ندامة بعد ارتكاب مقتضاهما دّل على غلبتهما على العاقلة ومقهوريتها عنهما، وحينئذ لا يرجى صلاحه، وإلا فالإصلاح ممكن فليجتهد فيه ولا ييأس من روح الله، فإن سبل الخيرات مفتوحة، وأبواب الرحمة الإلهية غير مسدودة.
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.

والفائدة في القوة الوهمية: إدراك المعاني الجزئية، واستنباط الحيل والدقائق التي يتوصل بها إلى المقاصد الصحيحة، وبيان ذلك: أن الواهمة والخيال والمتخيلة ثلاث قوى متباينة، ومباينة للقوى الثلاث الأولى، وشأن الأولى إدراك المعاني الجزئية، وشأن الثانية إدراك الصور، وشأن الثالثة التركيب والتفصيل بينهما. وكل من مدركاتها إما مطابق للواقع، أو مخترع من عند أنفسها من غير تحقق له في نفس الأمر أيضا، وأما من مقتضيات العقل والشريعة، ومن الوسائل إلى المقاصد الصحيحة، أو من دواعي الشيطان وما يقتضيه الغضب والشهوة، وعلى الأول يكون وجودها خيرا وكمالا، وإن كان وجودها على الثاني شرا وفسادا. والحال في جميع القوى كذلك. هذا وقيل: ما ورد في القرآن من النفس المطمئنة واللوامة والأمارة بالسوء، إشارة إلى القوى الثلاث أعني العاقلة والسبعية والبهيمية.
والحق أنها أوصاف ثلاثة للنفس بحسب اختلاف أحوالها، فإذا غلبت قوتها العاقلة على الثلاث الأخر، وصارت منقادة لها مقهورة منها، وزال اضطرابها الحاصل من مدافعتها سميت «مطمئنة» لسكونها حينئذ تحت الأوامر والنواهي، وميلها إلى ملائماتها التي تقتضي جبلتها، وإذا لم تتم غلبتها وكان بينها تنازع وتدافع، وكلما صارت مغلوبة عنها بارتكاب المعاصي حصلت للنفس لوم وندامة سميت «لوامة».
وإذا صارت مغلوبة منها مذعنة لها من دون دفاع سميت «أمارة بالسوء» لأنه لما اضمحلت قوتها العاقلة وأذعنت للقوى الشيطانية من دون مدافعة، فكأنما هي الآمرة بالسوء.

ثم مثل اجتماع هذه القوى في الإنسان كمثل اجتماع مَلَكٍ، أو حكيم وكلب وخنزير وشيطان في مربط واحد. وكان بينها منازعة، وأيها صار غالبا كان الحكم له، ولم يظهر من الأفعال والصفات إلا ما تقتضيه جبّلته، فكان إهاب الإنسان وعاء اجتمع فيه هذه الأربع، فالملك أو الحكيم هو القوة العاقلة، والكلب هو القوة الغضبية، فإن الكلب ليس كلبا ومذموما للونه وصورته بل لروح معنى الكلبية والسبعية أعني الضراوة والتكلّب على الناس بالعقر والجرح.
والقوة الغضبية موجبة لذلك، فمن غلب فيه هذه القوة هو الكلب حقيقة، وإن أطلق عليه اسم الإنسان مجازا. والخنزير هو القوة الشهوية، والشيطان هو القوة الوهمية، والتقريب فيها كما ذكر، والنفس لا تزال محل تنازع هذه القوى وتدافعها إلى أن يغلب إحداها، فالغضبية تدعوه إلى الظلم والإيذاء، والبغضاء، والبهيمية تدعوه إلى المنكر والفواحش، والحرص على المآكل والمناكح، والشيطانية تهيج غضب السبعية وشهوة البهيمية، وتزيد فعلهما، وتغري إحداهما بالأخرى.
والعقل شأنه أن يدفع غيظ السبعية بتسليط الشهوية عليها، ويكسر سَوَرَة الشهوية بتسليط السبعية عليها، ويرد كيد الشيطان ومكره بالكشف عن تلبيسه ببصيرته النافذة، ونورانيته الباهرة، فإن غلب على الكل بجعلها مقهورة تحت سياسته غير مقدمة على فعل إلا بإشارته جرى الكل على المنهج الوسط، وظهر العدل في مملكة البدن، وإن لم يغلب عليها وعجز عن قهرها قهروه واستخدموه فلا يزال الكلب في العقر والإيذاء، والخنزير في المنكر والفحشاء، والشيطان في استنباط الحيل، وتدقيق الفكر في وجوه المكر والخدع، ليرضى الكلب، ويشبع الخنزير، فلا يزال في عبادة كلب عقور، أو خنزير هلوع أو شيطان عنود، فتدركه الهلاكة الأبدية، والشقاوة السرمدية إن لم تغثه العناية الإلهية، والرحمة الأزلية» [5].

وعليه: فلا يمكن للإنسان التخلص من سطوة النفس إلا بكسرها من الوقوع في مثالب الشهوة، وأن يلجمها من التقحم به في رغباتها وهواها فتورده المهالك.
ومما لا ريب فيه أن الأمر الذي ورد في النص الشريف بالكسر والزع، أي المنع، يحتاج إلى الرياضة والمجاهدة وهو لا يختلف عما يحتاج إليه الفارس في تذليل فرسه والسير بأمره وإلا تفلت منه الفرس وأخذت به ما تشتهي فأمّا أن تلقيه من على ظهرها وأمّا أن ترميه في المهالك فيقتل.
ومن ثمَّ: فإن الأمر بكسر النفس عند الشهوات وكفها عند الأهواء والرغبات  يتحقق بمعرفة النفس وترويضها وهي الأساس في تكوين شخصية الإنسان القيادي ولاسيما أن الحديث موجه إلى رجل يراد منه صناعة الإنسان والدولة، وهو بأمس الحاجة إلى النجاح في مهمته وما كُلف به، وأن ذلك لا يتأتى إلا عِبْر تحقيق المعادلة التي نص عليها الحديث الشريف بـ « أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَه مِنَ الشَّهَوَاتِ، ويَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّه»[6].

الهوامش:
[1] في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: ج4 ص46
[2] شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج5 ص135
[3] في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: ج4 ص46
[4] جامع السعادات، النراقي: ج1 ص51-54
[5] المصدر السابق.
[6] لمزيد من الاطلاع، ينظر: فقه صناعة الإنسان ، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رحمه الله)، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق، السيد نبيل الحسني، ص 146- 150/ مع بعض الإضافة، إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة - العتبة الحسينية المقدسة، ط 1 -  دار الوارث كربلاء المقدسة 2023م.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2749 Seconds