بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي
الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
اما بعد:
تكرر في كلام الإمام (عليه السلام) مرتين، ليدل على معنى حقيقي، وذلك في قوله: «ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الأرض وَسَهْلِهَا، وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَ، تُرْبَةً سَنَّهَا بالمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ، وَلاَطَهَا بِالبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ»[1]، استعمل طباق الإيجاب الذي يقوم على اللفظ وضدِّه، وهي مقدمة طويلة المبينة لاختلاف الأجزاء التي جبل منها الإنسان (حزن الأرض وسهلها) (عذبها وسبخها). فالحَزن من الأرض: ما غَلُظَ منها واشتدَّ، كالجبل، والسَّهل: مالان، وعذبها: ما طاب منها واستعد للنبات والزَرع، والسبخ: ما ملح منها، والمسنون: الطِّين الرَطب. جاءت (ثم) للتراخي في الزَمن، وللإشارة الى المدة التي يتحول فيها الجنين من حال الى آخر، وفي هذه الخطبة بيان لخلق السموات والأرض والملائكة وآدم في زمن غير معلوم، واستعماله لمفردات (لاطها، لزبت) في نسق تعبيري واحد و(تربة سنها بالماء حتى خلصت) إشارة الى الكيفية التي ستكون فيما بعد بتراتبية واشارت (حتى) الى غائية الفعل التي تمثل المنحى التصويري الأول على وجه الأرض[2].
وقال في (علة اختلاف الناس): «إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ مَبَادِىءُ طِينِهِمْ، وَذلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِلْقَةً مِنْ سَبَخِ أرض وَعَذْبِهَا، وَحَزْنِ تُرْبَة وَسَهْلِهَا، فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أرضهِمْ يَتَقَارَبُونَ، وَعَلَى قَدْرِ اخْتِلاَفِهَا يَتَفَاوَتُونَ» [3].
الحُزْن والحَزَن، لغتان (إذا أثقلوا فتحوا، وإذا ضَمُوا خففوا، يقال: أصابه حَزن شديد، وحزن شديد)، ويقال: حزنني الأمر يحزنني فأنا محزون وأحزنني فأنا مُحْزَنٌ، وهو مُحْزِنُ، لغتان أيضا، ولا يقال: حَازِن[4].
فالحاء والزاء والنون أصل واحد، وهو خِشُونة وشِدة فيه، ومن ذلك الحَزْن، وهو ما غلُظ من الأرض وحُزَانتك: أهلك ومن تتَحزَّن له[5].
والحَزْن: ما غلظ من الأرض، والجمع حُزُون وفيها حزونة؛ وقوله: الحَزْنُ باباً والعَقور كَـَلباً، أجرى فيه الاسم مجرى الصِّفة، قال ابن شميل: أول حُزون الأرض قفافها وجبالها وقواقيها وخشنها ورضمها، ولا تعد أرض طيبة ٌ، وان جلدت حَزناً[6].
فالحُزْنُ والحَزَنُ خشونة في الأرض وخشونة في النفس؛ لِمَا يحصلُ فيه من الغَم[7].)([8]).
الهوامش:
[1] نهج البلاغة: خ 1، 9.
[2] ظ: الخطاب في نهج البلاغة: خ 234، 262.
[3] نهج البلاغة: خ 234، 262.
[4] ظ: العين (مادة حزن): 3 / 160.
[5] ظ: مقاييس اللغة: 2 / 54.
[6] ظ: لسان العرب (مادة دحو): 2 / 861.
[7] ظ: المفردات في غريب القرآن: 1 / 152.
([8]) لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 230-232.