مباحث أخلاقية في عهد مالك الأشتر (رحمه الله) . الحلقة التاسعة: دلالة قوله (عليه السلام): «وشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ» وأثره في تنمية الذات.

مقالات وبحوث

مباحث أخلاقية في عهد مالك الأشتر (رحمه الله) . الحلقة التاسعة: دلالة قوله (عليه السلام): «وشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ» وأثره في تنمية الذات.

493 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 22-08-2024

بقلم : السيد نبيل الحسني .

تناولنا في الحلقة السابقة قوله (عليه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله) : «املك هواك»

وبينا دلالة ملك الهوى وأثاره في بناء الذات وسنتناول هنا دلالة الامر بشح النفس فيما لا يحل لها، وآلية تحقيق ذلك واثره في عملية بناء الذات وتطوير القدرات في عملية تهذيب النفس.

1ـ معنى الشح.

يفتتح الحديث الشريف عملية تهذيب النفس بالشح وهو: البخل والحرص، وأصله المنع.

قال الفراهيدي: (البخل: وهو الحرص؛ وهما يتشاحان على الأمر: لا يريد كل واحد منهما أن يفوته). [1]

وقال بن فارس: (الشين والحاء، الأصل فيه المنع، ثم يكون منعا مع حرص من ذلك الشح، وهو البخل مع حرص) [2].

2ـ الفرق بين الشح والبخل.

أنّ الشح: الحرص على منع الخير، ويقال: زند[3] شحاح إذا لم يور[4] نارا، وإن أشح عليه بالقدح كأنه حريص على منع ذلك، والبخل: منع الحق، فلا يقال لمن يؤدي حقوق الله تعالى بخيل.

والفرق بين الشح والبخل ، هو أن الشح: البخل مع حرص، فهو أشد من البخل.

وقيل: الشح: اللؤم، وأن تكون النفس حريصة على المنع. وقد أضيف إلى النفس في قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128][5].

3ـ دلالة الأمر بشح النفس عند شراح نهج البلاغة.

يرى ابن ميثم البحراني (أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا أمر مالك الأشتر بالعمل الصالح إجمالا، شرع في تفصيله وذكر أنواعا:

أحدها: أن يملك هواه في شهوته وغضبه فلا يتّبعهما، ويشحّ بنفسه عمّا لا يحلّ لها من المحرّمات.

وقوله: «فإنّ الشحّ» إلى قوله: «كرهت» تفسير لذلك الشحّ بما يلازمه وهو الانصاف والوقوف على حدّ العدل في المحبوب فلا تقوده شهوته إلى حدّ الإفراط فيقع في رذيلة الفجور، وفي دفع المكروه فلا يقوده غضبه إلى طرف الإفراط من فضيلة العدل فيقع في رذيلة الظلم والتهوّر؛ وظاهر أنّ ذلك شحّ بالنفس وبخل بها عن إلقائها في مهاوي الهلاك)[6].

ويحدد الراوندي الأمر بشح النفس في المعصية والطاعة، (أي: لا تضعها في معصية، ولا تخرجها من طاعة)[7].

في حين يرى المعتزلي أن معنى (الأمر بشح النفس قد فسرّه الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، (أن تنتصف منها فيما أحبت وكرهت) ، أي لا تمكنها من الاسترسال في الشهوات وكن أميرا عليها، ومسيطرا وقامعا لها من التهور والانهماك.

فإن قلت: هذا معنى قوله: «فيما أحبت» ، فما معنى قوله: «وكرهت» ؟

قلت: لأنها تكره الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات الشرعية ومن الواجبات العقلية وكما يجب أن يكون الانسان مهيمنا عليها في طرف الفعل يجب أن يكون مهيمنا عليها في طرف الترك)[8].

والملاحظ في هذه الأقوال التي بينّ فيها الشراح معنى الشح بالنفس: اَبتعادها عن قصدية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في أمره لمالك الأشتر(رحمه الله) بشح النفس ولاسيما قول المعتزلي في (كره النفس للصوم والصلاة) ومعارضته للعديد من النصوص الشريفة، فضلا عن سيرة العلماء والصلحاء والعبّاد، بل يكفي في نفي هذا المعنى قوله (صلى الله عليه وآله):

«الصلاة قربان والصيام جُنّة..»[9].

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام):

«الصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ»[10].

وعليه: فأن الشح بالنفس له دلالة أخرى وآلية خاصة في بناء الذات وتهذيب النفس وهو ما سنتناوله في الفقرة الآتية.   

4 ـ آلية العمل بقاعدة الشح بالنفس .

يكشف قوله (عليه السلام) لمالك (رحمه الله):

«وشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ».

عن اكتناز النص الشريف لدلالتين مختلفتين، فأما الأولى: فهي دالة على المنع المقرون بالحرص، أي: أن يكون المأمور حريصا على منع نفسه من التعامل مع أي شيء لا يحل له؛ فأن فيه أنصاف للنفس بمنعها من الوقوع في الحرام وتعريضها للذل والمهانة والعقاب.

وأما الثانية: فإن «الإنصاف منها» هو الاعتدال في الحب والكره، وتجنيب النفس من الميل إلى الإفراط أو التفريط فيما أحبت أو كرهت؛ وذلك أن لكل منهما جنبتين، أي الحب والكره، فأن أحبت النفس لزم بها الأنصاف فلا أفراط في الحب ولا تفريط أيضاً، أي لا تزيد أو تنقص فيه وهو المراد من الأنصاف وبه يتحقق المنع، وكذا حالها في الكره فلا أفراط فيما تكره أو تفرط.

ومما يدل عليه قوله (عليه السلام): «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا ، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا ، وأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا ، عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا»[11] فهو كاشف عن التحكم في المشاعر النفسية ، وذلك يكشف عن العلة في صدور الأمر بشح النفس، أي لكونها مجبولة على التأثر بالهوى كما وصفها الله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}[يوسف: 53].

ومن ثمّ فإن عملية بناء الذات في منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) ضمن آلية الشح بالنفس هو أن يكون الإنسان شديد الحرص على منعها فيما لا يحل لها ، بمعنى لا يمكن للإنسان أن يرتقى بالنفس إلى مرتبة التحكم بهواها فيملك الاختيار فيما تحب أو تكره ما لم يمتنع ابتداءً بمنعها عن المحرمات فمن وقع في محرم كيف له أن يكون منصفا مع نفسه فيما تحب أو تكره؟ [12].

الهوامش:
[1] كتاب العين، الفراهيدي: ج3 ص13
[2] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس: ج3 ص178.
[3] الزند هو كناية عن اليد
[4] يور نار، كناية عن حرق الحطب وغيره لغرض اعداد الطعام والضيافة والانفاق على النفس والاهل وغيرهم.
[5] الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري: ص295 .
[6] شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج5 ص141
[7] منهاج البراعة، قطب الدين الراوندي: ج3 ص172
[8] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي: ج17ص31
[9] مسند أبي يعلى: ج3 ص476
[10] نهج البلاغة، الحكمة: 136
[11] نهج البلاغة، الحكمة: 268
[12] لمزيد من الإطلاع ، ينظر : فقه صناعة الإنسان ، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي(عليه السلام) لمالك الاشتر(رحمه الله) ، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق ، السيد نبيل الحسني، ص161-166 / مع بعض الإضافة، إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة - العتبة الحسينية المقدسة ، ط 1 -  درا الوارث كربلاء المقدسة 2023م

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2633 Seconds