بقلم : السيد نبيل الحسني.
كثيرة هي الأسئلة التي تفرضها مأساة يوم العاشر من المحرم الذي استشهد فيه ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولعل ما يرد في ساحة البحث هذا التساؤل الذي بدأنا به وضع دراسة خاصة في معرفة الحكمة التي من أجلها أخرج الإمام الحسين (عليه السلام) نساءه وأطفاله إلى العراق وهو الذي كان يعلم علم اليقين انه ذاهب لملاقاة أعداء الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنه مقتول لا محاله، فلطالما صرّح بذلك جده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل كان اهتمامه في بيان هذه الفاجعة يفوق حد التصور، ويعطي مفهوماً خاصاً ارتبط بمقامه (صلى الله عليه وآله) عند الله تعالى، هذا المقام ترتب عليه من الابتلاء والامتحان ما لم يصل إلى تحمله نبي من الأنبياء ولا رسول من الرسل، فأي نبي أو رسول وصل به التسليم والرضا بقضاء الله تعالى إلى الحد الذي كشفه فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما دخل على علي وفاطمة (عليهما السلام) في ليلة زفافهما وعند السحر ليخبرهما بأن الله سيجعل منهما ولدين سيقتل أحدهما غريبا عطشاناً.
كما يروي ابن جرير الطبري في الدلائل - في حديث طويل عن مراسيم زفاف فاطمة (عليها السلام) - بسنده إلى موسى بن إبراهيم المروزي، قال: حدثنا الإمام موسى بن جعفر عن أبيه الإمام جعفر بن محمد، عن جده الإمام محمد الباقر ( عليهم السلام )، عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله)، قال : (لما زوّج رسول الله فاطمة من علي أتاه أناس من قريش فقالوا إنك زوجت عليا بمهر قليل!...إلى يقول: (فقال علي (عليه السلام):
«فبت بليلة لم يبت أحد من العرب بمثلها، فما إن كان في آخر السحر أحسست بحس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معنا، فذهبت لأنهض، فقال لي:
مكانك يا علي، أتيتك في فراشك رحمك الله.
فأدخل صلى الله عليه وآله وسلم رجليه معنا في الدثار، ثم أخذ مدرعة كانت تحت رأس فاطمة، ثم استيقظت فاطمة فبكى، وبكت، وبكيت لبكائهما، فقال لي:
ما يبكيك يا علي؟
قال: قلت: فداك أبي وأمي، لقد بكيت وبكت فاطمة، فبكيت لبكائكما.
قال نعم: أتاني جبرئيل فبشرني بفرخين يكونان لك، ثم عزيت بأحدهما، وعرفت أنه يقتل غريبا عطشانا، فبكت فاطمة حتى علا بكاؤها، ثم قالت: يا أبه، لم يقتلوه وأنت جده، وأبوه علي، وأنا أمه؟
قال: يا بنية، لطلبهم الملك، أما إنه سيظهر عليهم سيف لا يغمد إلا على يد المهدي من ولدك»)([1]).
ويستمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الإخبار عن هذه الفاجعة حينما ولد الإمام الحسين (عليه السلام)، ليرسّخ في الأذهان أن هذا المولود هو مشروع استشهادي اصطفاه الله تعالى لنصرة دينه وحفظه من العبث على أيدي جبابرة الكفر ومردة النفاق وأئمة الضلال وسلاطين الجور.
كما تشير إلى ذلك رواية الشيخ المفيد (رحمه الله)، والحاكم النيسابوري، وابن عساكر الدمشقي، وغيرهم عن أم الفضل بنت الحارث: (أنها دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالت: يا رسول الله رأيت هذه الليلة حلما منكراً !! قال:
«وما هو؟». قالت: إنه لشديد، قال:
«وما هو؟».
قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
«خيراً رأيت، تلد فاطمة غلاماً فيكون في حجرك».
فولدت فاطمة الحسين (عليه السلام)، فقالت: وكان في حجري كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فدخلت به يوما على النبي (صلى الله عليه وآله) فوضعه في حجره، ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول الله (عليه وآله السلام) تهراقان بالدموع، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما لك؟! قال:
«أتاني جبرئيل (عليه السلام) فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا، وأتاني بتربة من تربته حمراء»)([2]).
ولم يكتف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذا القدر من البيان عن مصير ولده وما تجترم الأمة بحقه ولا ترعى له ذمة ولا حرمة فيقول لعائشة حينما تسأله متعجبة من شدّة حبه لولده الإمام الحسين (عليه السلام) فتسأله وهي تنظر إليه كيف قد أجلسه في حجره ثم انعكف عليه يلاعبه ويضاحكه، فقالت:
«يا رسول الله ما أشد إعجابك بهذا الصبي!».
فقال لها:
«ويلك، وكيف لا أحبه، ولا أعجب به، وهو ثمرة فؤادي، وقرة عيني، أما أن أمتي ستقتله، فمن زاره بعد وفاته كتب الله له حجة من حججي».
قالت: يا رسول الله حجة من حججك؟! قال:
«نعم، حجتين من حججي».
قالت: يا رسول الله حجتين من حججك؟! قال:
«نعم، وأربعة».
قال الإمام الصادق (عليه السلام):
«فلم تزل تزاده ويزيد ويضعف حتى بلغ تسعين حجة من حجج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأعمارها»([3]).
فكان هذا كافياً في إيجاد حالة اليقين عند أهل البيت (عليهم السلام) بما سيجري على الإمام الحسين (عليه السلام)، فضلاً عن بيانه (صلى الله عليه وآله) تفاصيل ما سيحل على الحسين (عليه السلام) من المصائب والرزايا العظيمة في يوم عاشوراء حتى سجل التاريخ تلك الحقيقة المأساوية في صفحاته لتزفر حصرة بعد شهقة في وجوه من أرادوا أن يطمسوا أعينهم عن انقلاب هذه الأمة بعد وفاة نبيها (صلى الله عليه وآله)، فغدت على أهل بيته تنهبهم وتقتلهم لتكوّن في تاريخ الإنسانية بشكل عام وبتاريخ النبوة والأنبياء(عليهم السلام) أفجع حلقة من المآسي والآلام التي لم يعرفها أي تاريخ من تواريخ الديانات، وكيف والمفجوع والمبتلى سيد الأنبياء وأشرف ما خلق الله تعالى ومن ثمّ ليرى الناس أنه في مقام التسليم والرضا بما قدر الله تعالى ما لم يصل إليه أحد من خلقه[4].
الهوامش:
([1]) دلائل الإمامة: ص101 ــ 102 ؛ فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ابن عقدة الكوفي:108
([2]) الإرشاد: ج2، ص129؛ المستدرك على الصحيحين : ج3، ص177؛ تاريخ دمشق: ج14، ص197؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج6، ص258.
([3]) كامل الزيارات، ابن قولويه: ص144؛ الأمالي ، الطوسي: ص668.
[4] لمزيد من الاطلاع ينظر: سبايا آل محمد (صلى الله عليه وآله)، السيد نبيل الحسني: ص13– 17 إصدار العتبة الحسينية، ط مؤسسة الأعلمي - بيروت 1433هـ ــ 2012م