بقلم: السيد نبيل الحسني
تناولنا في المقال السابق الأحاديث النبوية الشريفة الكاشفة عن إخبار رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتفاصيل كثيرة مما يجري على ولده الإمام الحسين (عليه السلام) في مأساة كربلاء ومنذ ليلة زفاف فاطمة والإمام علي (عليهما السلام) وبينا علاقة هذا المصاب بمنزلته (صلى الله عليه وآله) ولاسيما سبايا بنات النبوة من بلد إلى بلد، ومن ثمّ يصبح من البداهة بمكان أن يكون الإمام الحسين (عليه السلام) -وهو المعني الأول بما سيجري في كربلاء التي ملئت بالأسرار مثلما ملئت بالمصائب والرزايا- عالمًا بمصيره المحتوم على أيدي أمة جده (صلى الله عليه وآله)، ولطالما كان يصرّح بذلك وفي مناسبات كثيرة، كما كان يفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن الفارق فيما بين هذه الأقوال هو أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يظهر مصير أطفاله وإخوانه وحُرمه وما يجري عليهم في أرض كربلاء، وأنه كان يحمل من تربة قبره معه وقد أعطى أم المؤمنين أم سلمة جزءا منها لما جاء لوداعها قبل خروجه من المدينة متجها إلى مكة كما تدل عليه النصوص التاريخية، فكان منها:
أولا: أنه (عليه السلام) لما عزم على الخروج من المدينة أتته أم سلمة (رضي الله عنها)، فقالت: (يا بني لا تحزني بخروجك إلى العراق، فإني سمعت جدك يقول: «يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلاء»، فقال لها: «يا أماه وأنا والله أعلم ذلك، وإني مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بد، وإني والله لأعرف اليوم الذي اقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أدفن فيها، وإني أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردت يا أماه أريك حفرتي ومضجعي»، ثم أشار (عليه السلام) إلى جهة كربلاء فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه ومدفنه، وموضع عسكره، وموقفه ومشهده، فعند ذلك بكت أم سلمة بكاء شديدا، وسلّمت أمره إلى الله، فقال لها: «يا أماه قد شاء الله عزّ وجلّ أن يراني مقتولا مذبوحا ظلما وعدوانا، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشردين، وأطفالي مذبوحين مظلومين، مأسورين مقيدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا ولا معينا».
وفي رواية أخرى: قالت أم سلمة: (وعندي تربة دفعها إلي جدك في قارورة، فقال: «والله إني مقتول كذلك، وإنْ لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضا»، ثم أخذ تربة فجعلها في قارورة، وأعطاها إياها، وقال: «اجعليها مع قارورة جدي فإذا فاضتا دما فاعلمي أني قد قتلت»، فطلبت منه ذلك فأراها تربة أصحابه، ثم أعطاها من تلك التربة وأمرها أن تحتفظ بها في قارورة فإذا رأتها تفور دماً تيقنت قتله!)[1]. (وفي اليوم العاشر بعد الظهر نظرت إلى القارورتين فإذا هما تفوران دماً)([2]).
ثانيا: لما أراد الخروج من مكة متجها إلى العراق قام (عليه السلام) خطيبًا، فقال: «الحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلا بالله خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف وخيّر لي مصرع أنا لاقيه، كأني وأوصالي يتقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم رضى الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ على رسول الله لحمته وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز بهم وعده، مَنْ كان باذلا فينا مهجته، وموطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل فإني راحل مصبحا إن شاء الله»([3]).
كل ذلك لم يمنعه من إخراج عياله من أخوات وبنات وازواج وأطفال وإخوان وبني عمومة وأرحام وأصحاب إلى أرض كربلاء، بل قد أظهر للتاريخ الذي غرق في صمت عميق وهو يرى تلك الحوادث في يوم عاشوراء فلم يجد جواباً أن الأمر أكبر من أن يستوعبه ذهن باحث أو يحيط به فكر دارس؛ وبين هذا وذاك راح المؤرخ يسجل قول ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الله قد شاء أن يراهن سبايا»!!!
وعندها كيف لا يفرض البحث على كل باحث وهو يرى كل هذه المقاطع الفكرية لحياة سيد شباب أهل الجنة؟! والأسرار التي زخرت بها مأساة كربلاء الكثير من الأسئلة فهل من أحد من الأنبياء والأوصياء كان يحمل معه شيئا من تربة قبره قبل أن يتوسد فيه بدنه الطاهر!! وهل اصطحابه لعياله كان مرتكزا على ما اعتادت عليه العرب قبل الإسلام من حملها للنساء والأطفال إلى مواطن الحروب فكانت تحرز بهن انتصاراً، أم لم تجد لهنّ أماناً إذا تركوهنّ فخشوا أن يُؤْخَذْنَ رهائن عند الخصوم، أم أن العرب كانت تجد أن مصير رجالها ونسائها وأطفالها مرهون بالرجال حينما تدق الحرب طبولها معلنة الدمار وهي تصرخ في فضاء الصحراء أن لا حياة للعيال بعد الرجال، فيتردد هذا الصدى إلى مسامع المسلمين فكانوا على ما عهدوا عليه أسلافهم في حمل النساء والأطفال إلى دار الحرب والدمار، أم أن الأمر لا علاقة له بماضي العرب؟ وما كانت تفكر فيه، بل هي مشيئة الله التي اقتضت أن يرى سبحانه ابن بنت سيد خلقه ورسله مقتولا بغير جرم وأن يرى جلّ شأنّه بناة النبوة سبايا وقد أقرن إليهنّ رأس الحسين (عليه السلام) ليشهده ملائكة السماء وأهل الأرض[4]؟!!
الهوامش:
[1] بحار الأنوار: ج44، ص332، العوالم ، عبد الله البحراني: ص180 ، ينابيع المودة، القندوزي الشافعي: ج3 ص60 ؛ مقتل الإمام الحسين عليه السلام للسيد عبد الرزاق المقرم: ص135 ــ 13
([2]) مقتل الإمام الحسين عليه السلام للسيد عبد الرزاق المقرم: ص135 ــ 136.
([3]) مثير الأحزان لابن نما الحلي: ص29؛ البحار للمجلسي: ج44، ص367؛ كشف الغمة للأربلي: ج2، ص239.
[4] لمزيد من الاطلاع ينظر: سبايا آل محمد (صلى الله عليه وآله)، السيد نبيل الحسني: ص 17– 20 إصدار العتبة الحسينية، ط مؤسسة الأعلمي - بيروت 1433هـ ــ 2012م ببعض الإضافة