الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) في التنفير من الدنيا

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) في التنفير من الدنيا

53 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 02-12-2024

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
دارٌ بِالْبَلَاءِ مَحْفُوفَةٌ، وَبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ، لَا تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلَا يَسْلَمُ نُزَّالُهَا.
 أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَتَارَاتٌ مَتَصَرِّفَةُ، الْعَيْسُ فِيهَا مَذْمُومٌ، وَالْأَمْانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ، وَإِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَغْرَاضُ مُسْتَهْدَفَةٌ تَرْمِيهِمْ بِسِهَامِهَا، وَتَفْنِيهِمْ بِحِمَامِهَا.
وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّكُمْ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلٍ مَنْ قَدْ مَضَى قَبْلَكُمْ، مِمَّنْ كَانَ أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَاراً، وَأَعْمَرَ دِيَاراً، وَأَبْعَدَ آثَاراً، أَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُمْ هَامِدَةً، وَرِيَاحُهُمْ رَاكِدَةً، وَأَجْسَادُهُمْ بَالِيَةٌ، وَدِيَارُهُمْ خَالِيَةٌ، وَآثَارُهُمْ عَافِيَةٌ، فَاسْتَبْدَلُوا بِالْقُصُورِ الْمُشَيَّدَةِ، وَالنَّمَارِقِ الْمُمَهَّدَةِ الصُّخُورَ وَالْأَحْجَارَ الْمُسَنَّدَةَ، وَالْقُبُورَ اللَاطِئَةَ الْمُلْحَدَةَ الَّتِي قَدْ بُنِي عَلَى الْخَرَابِ فِنَاؤُهَا ، وَشُيِّدَ بِالتُّرَابِ بِنَاؤُهَا ، فَمَحَلَّهَا مُقْتَرِبٌ ، وَسَاكِنُهَا مُغْتَرِبٌ ، بَيْنَ أَهْلِ مَحَلَّةٍ مُوحِشِينَ وَأَهْلِ فَرَاغ مُتَشَاغِلِينَ لَا يَسْتَأْنِسُونَ بِالْأَوْطَانِ، وَلَا يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْجِيرَانِ، عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ الْجِوَارِ وَدُنُو الدَّارِ، وَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَزَاوُرٌ، وَقَدْ طَحَنَهُمْ بِكَلْكَلِهِ الْبِلَى، وَأَكَلَتْهُمُ الْجَنَادِلُ وَالثَّرَى ؟!
 وَكَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ، وَأَرْتَهَنَكُمْ ذَلِكَ الْمَضْجَعُ وَضَمَّكُمْ ذَلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ ، فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِكُمُ الْأُمُورُ، وَبُعْثِرَتِ الْقُبُورُ {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}([1]))([2])

شرح الألفاظ الغريبة:
النزال : - بضم وتشديد الزاي - جمع نازل؛ متصرفة : متنقلة متحولة : مُستهدفة : - بكسر الدال - منتصبة مهيأة للرمي؛ الحمام : - بالكسر – الموت؛ بعد الآثار: طول بقائها بعد ذويها؛ راكدة ساكنة، وركود الريح كناية عن انقطاع العمل وبطلان الحركة؛ آثارهم عافية: أي مندرسة؛ النمارق - جمع نمرقة - تطلق على الوسادة الصغيرة وعلى الطنفسة أي البساط ولعله المراد هنا؛ الممهدة: المفروشة؛ لطأ بالأرض: كمنع وفرح – لصق؛ الملحدة : - من ألحد القبر - جعل له لحداً أي شقاً في وسطه أو جانبه؛ فناء الدار : - بالكسر - ساحتها وما اتسع أمامها؛ الكلكل: هو صدر البعير؛ البلى : - بكسر الباء - أي الفناء الجنادل: الحجارة؛ الترى: التراب؛ ارتهنكم ذلك المضجع: أي لقرب أجالكم كأنكم قد صرتم إلى مصيرهم وحبستم في ذلك المضجع كما يحبس الرهن في يد المرتهن؛ تناهى به الأمر: وصل إلى غايته والمراد انتهاء مدة البرزخ ؛ بعثرت القبور: قلبت ثراها وأخرج موتاها([3]) .

الشرح:
 غرض الفصل التحذير من الدنيا والاشتغال بها عن الله والتنفير عن ذلك بذكر معايبها، والجذب به إلى استعمالها على الوجه المطلوب الذي لأجله وجدت.
 فقوله: «دار»: خبر مبتدأ محذوف هو الدنيا، وذكر من معايبها عدة:
أحدها: كونها مقرونة بالبلاء ملازماً لها، فكنى عن ذلك بالحفوف الذي هو الإحاطة من الجوانب لأنه أبلغ.
 الثاني: كونها معروفة بالغدر، واستعار لفظ الغدر لغيرهما عما يتوهم الإنسان دوامها عليه في حقه من أحوالها المعجبة له: كالمال والصحة والشباب فكأنه في مدة بقاء تلك الأحوال عليه قد أخذ منها عهداً فكان التغير المعارض لها المستلزم لزوال تلك الأحوال عنه أشبه شيء بالغدر، ولما كان كثر منها ذلك صارت معروفة به.
 وثالثها: كونها لا تدوم أحوالها.
 ورابعها: لا تسلم نزالها من آفاتها.
وخامسها: اختلاف أحوالها، وأحوال خبر مبتدأ محذوف تقديره: أحوالها أحوال كذلك.
وسادسها: تصرف تاراتها، وهو تغير أحوالها تارة بعد أخرى.
وسابعها: كون العيش فيها مذموماً، ولما كان العيش فيها كناية عن الالتذاذ بها والتنعم فيها واستلزم ذلك العاقبة المهلكة لاجرم لزم الدم، ولأنه مشوب بتكدير الأمراض والأعراض فلا يزال مذموماً في الألسنة حتى في لسان صاحبه والمستريح إليه عند معاناته بعض مراتب الكدر.
وثامنها: عدم الأمان فيها: أي من مخاوفها، وما يلزم تصرفاتها من البلاء وكل ذلك من ضرورتها واختلاف استعدادات القوابل فيها عن حركات الأفلاك وكواكبها. وكون المبادئ المفارقة مفيضة على كل قابل منها ما استعد له.
وتاسعها: كون أهلها فيها أغراضاً مستهدفة، واستعار لفظ الأغراض، ورشح بذكر الاستهداف، كذلك استعار لفظ الرمي لانتفاع المصائب بهم ورشح بذكر السهام.
وعاشرها: كونها معهم على سبيل من قد مضى من القرون الخالية ممن كان أطول أعماراً وأعمر دياراً وأبعد آثاراً: أي كانت آثارهم لا يقدر عليها ولا تنال العظمها. وكونها معهم على ذلك السبيل إشارة إلى إقبالها لهم كإفناء أولئك وإلحاقهم بأحوالهم.

وقوله: «أصبحت أصواتهم ...» إلى قوله: «والثرى»: تفصيل لأحوال أولئك ووعيد للسامعين بلحوقها لهم، إذ كان سبيل الدنيا مع الجمع واحداً، وركود رياحهم كناية عن سكون أحوالهم وخمول ذكرهم بعد العظمة في الصدور.
 وقوله: «قد بنى بالخراب فناؤها» أي على خراب ما كان معموراً من الأبدان والمساكن، وظاهر أن القبور أسست على ذلك وبنيت عليه، وراعى في قوله : فناؤها وبناؤها ومغترب ومقترب السجع المتوازي مع المطابقة في القرينتين الأخريين، وأراد أن ساكنها وإن اقترب محله فهو غريب عن أهله، ونبه بقوله : موحشين ومتشاغلين وكونهم لا يستأنسون بالأوطان ولا يتواصلون تواصل الجيران على أن أحوالهم من تجاورهم وفراغهم ليس كأحوال الدنيا المألوفة لهم ليخوف بها وينفر عنها .
ثم أشار إلى عدم علة المزاورة. واستعار لفظ الطحن لإفساد البلى لأجسادهم ورشح بلفظ الكلكل، وكذلك استعار لفظ الأكل لإفنائها.

 وقوله: «وكأن قد صرتم ... إلى قوله: «المستودع»: فكأن المخففة من الثقيلة. واسمها ضمير الشأن، والتقدير فيشبه أنكم قد صرتم إلى مصيرهم وأحوالهم ويقرب من ذلك لأن مشابهة الأحوال يستلزم قرب بعضها من بعض. وارتهنكم ذلك المضجع»: أي صار لكم دار إقامة واتخذكم سكانه المقيمين به. وأطلق عليه لفظ المستودع باعتبار كونهم سيخرجون منه يوم القيامة. وقوله : «فكيف بكم ....» إلى قوله : «القبور»: سؤال لهم عن كيفية حالهم عند تناهي أمورهم وأحوالهم في يوم البعث سؤالاً على سبيل التذكير بتلك الأحوال والتخويف بتلك الأهوال ليذكروا شدتها فيفزعوا إلى العمل، وذكر منها أمراً واحداً وهو اطلاع النفوس على ما قدمت وأسلفت في الدنيا من خير وشتر والرد إلى المولى الحق الذي ضل مع الرجوع إليه كل ما كان يفترى من دعوى حقيقة سائر الأباطيل المعبودة، وبالله التوفيق)([4]).

الهوامش:
([1]) يونس: 30.
([2]) نهج البلاغة لصبحي صالح : ٣٤٨ - ٣٤٩ / خطبة رقم ٢٢٦، ونهج البلاغة للشيخ العطار : ٤٦٣ - ٤٦٤ / خطبة رقم ٢٢٥ ، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم ٤: ۸۹ - ۹۱ / خطبة رقم ٢١٧، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده ١: ٤٨١ – ٤٨٣.
([3]) شرح الألفاظ الغريبة: 670-671.
([4]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 268-272.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2544 Seconds