بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
قال عليه السلام:
مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ! وَآخِرُهَا فَنَاءٌ! فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ، وَفِي حَرَامِهَا عِقَابٌ.
مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ، وَمَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ، وَمَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَته، وَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ، وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ([1])
شرح الألفاظ الغريبة:
العناءُ: التعب؛ ساعات: جارها سعياً؛ وآتَتْهُ طاوَعَتْهُ([2]).
الشرح:
قال الشريف: أقول: وإذا تأمل المتأمل قوله عليه السلام ((من أبصر بها بصرته)) وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد ما لا تبلغ غيته ولا يدرك غوره، ولا سيما إذا قرن إليه قوله: ((ومن أبصر إليه أعمته))، فإنّه يجد الفرق بين ((أبصر بها)) و ((أبصر إليها)) واضحاً نيراً وعجيباً باهراً.
قد ذكر للدنيا في معرض ذمها والتنفر عنها أوصافاً عشرة:
الأول: كون ((أولها عناء)): وهو إشارة إلى أن الإنسان من لدن ولادته في تعب وشقاء، ويكفي في الإشارة إلى متاعب الإنسان فيها ما ذكره الحيكم برزويه في صدر كتاب كليلة ودمنة في معرض تطويع نفسه بالصبر على عيش النساك: أوليست الدنيا كلها أذى وبلاء؟! أوليس الإنسان يتقلب في ذلك من حين يكون جنيناً إلى أن يستوفي أيامه؟ فأنا قد وجدنا في كتب الطب أن الماء الذي يقدر منه الولد السوي إذا وقع في رحم المرأة اختلط بمائها ودمها وغلظ ثم الريح تمحص ذلك الماء والدم حتى تتركه كالرائب الغليظ، ثم تقسمه في أعضائه لآناء أيامه فإن كان ذكراً فوجهه قبل ظهر أمه وإن كان أنثى فوجهها قبل بطن أمها وذقنه على ركبتيه ويداه على جنبيه مقبض في المشيمة كأنه مصرور، ويتنفس من متنفس شاق، وليس منه عضو إلا كأنه مقموط، فوقه حر البطن وتحته ما تحته، وهو منوط بمعاء من سرته إلى سرة أمه منها يمص ويعيش من طعام أمه وشرابها فهو بهذه الحالة في الغم و الظلمات والضيق حتى إذا كان يوم ولادته سلط الله الريح على بطن أمه وقوي عليه التحريك فتصوب رأسه قبل المخرج فيجد من ضيق المخرج وعصره ما يجده صاحب الرهق فإذا وقع على الأرض فأصابته ريح أو مسته يد وجد من ذلك من الألم ما لم يجده من سلخ جلده، ثم هو في ألوان من العذاب إن جاع فليس له استطام وإن عطش فليس له استقاء أو وجع فليس له استغاثة، مع ما يلقى من الرفع والوضع واللفّ والحلّ والدهن والمرخ، إذا أُنيم على ظهره لم يستطع تقلّباً، فلا يزال في أصناف هذا العذاب مادام رضيعاً.
فإذا أفلت من ذلك أُخذ بعذاب الأدب فأُذيق منه ألواناً، وفي الحميّة والأدواء والأوجاع والأسقام؛ فإذا أدرك فهم المال والأهل والولد والشره والحرص ومخاطرة الطالب والسعي، وكل هذا يتقلب معه فيها أعداؤه الأربعة: المرّة، والبلغم، والدم، والريح، والسم المميت والحيات اللادغة مع خوف السباع والناس، وخوف البرد والحر، ثم ألوان عذاب الهرم لمن بلغه([3]).
الثاني: كون ((آخرها فناء)): هو تنفير عنها بذكر غايتها وهو الموت وما يستصحبه من فراق الأهل والأحبة والإشراف على أهوانه العظيمة المعضلة.
الثالث: كونها في حلالها حساب)): وهو إشارة إلى ما يظهر في صحيفة الإنسان يوم القيامة من الآثار المكتوبة عليه مما خاض فيه من مباحات الدنيا، وتوسع فيه من المآكل والمشارب و المناكح والمراكب، وما يظهر في لوح نفسه من محبة ذلك فيعوقه عن اللحوق بالمجردين عنها الذين لم يتصرفوا فيها تصرف الملاك فلم يكتب عليه في شيء منها ما يحاسبون عليه. وإليه إشارة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم: إن الفقراء ليدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وإن فقراء أمتي ليدخلون الجنة سعياً، وعبد الرحمن يدخلها حبواً، وما ذلك إلا لكثرة حساب الأغنياء بتعويقهم بثقل ما حملوا من محبة الدنيا وقيناتها عن اللحوق بدرجة المخفين منها، وقد عرفت كيفية الحساب.
الرابع: كونها ((في حرامها عقاب)): وهو تنغير عما يوجب العقاب من الآثام بذكره.
الخامس: كونها ((من استغنى فيها فتن)): أي كانت محبته لما اقتنى فيها سبباً لفتنته وضلاله عن سبيل الله كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}([4]).
السادس: كونها ((من افتقر فيها حزن)): وظهار أن الفقير الطالب للدنيا غير الواجد لها في غاية المحنة والحزن على ما يفوته منها، وخاصةً ما يفوته بعد حصوله له.
السابع: ((من ساعاها فاتته)): وأقوى أسباب هذا الفوات أن تحصيلها أكثر ما يكون بمنازعة أهلها عليها ومجاذبتهم إياها، وقد علمت ثوران الشهوة والغضب والحرص عند المجاذبة للشيء وقوة منع الإنسان له، وتجاذب الخلق للشيء وعزته عندهم سبب لتفويت بعضهم له على بعض، وفيه تنبيه على وجوب ترك الحرص عليها والإعراض عنها، إذ كان فواتها اللازم عن شدة السعي في فضلها مكروهاً للسامعين.
الثامن: كونها ((من قعد عنها واتته)): وهو أيضاً جذب إلى القعود عنها وتكرها وإن كان الغرض مواتاتها كما يفعله أهل ازهد الظاهري المشوب بالرياء، وقد علمت ان الزهد الظاهري مطلوب أيضاً للشارع إذ كان وسيلة إلى الزهد الحقيقي كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الرياء قنطرة الإخلاص([5]) . وقد راعى في القرائن السجع المتوازي.
التاسع: ((من أبصر بها بصرته)): أي من جعلها سبب هدايته وبصره استفاد منها البصر والهداية، وذلك أنك علمت أن مقصود الحكمة الإلهية من خلق هذا البدن وما فيه من الآلات والمنافع إنما هو استكمال نفسه باستخلاص العلوم الكلية وفضائل الأخلاق من تصفح جزئيات الدنيا ومقايسات بعضها إلى بعض كالاستدلال بحوادثها وعجائب مخلوقات الله فيها على وجوده وحكمته، وتحصيل الهداية بها إلى أسرار ملكه فكانت سبباً مادياً لذلك فلأجله صدق أنها تبصر من أبصر بها.
العاشر: ((ومن أبصر إليها أعمته)): أي من مد إليها بصر بصيرته وتطلع إليها بعين قلبه محبة وعشقا أعمت عين بصيرته عن إدراك أنوار الله والاهتداء لكيفية سلوك سبيله. وإليه الإشارة بالنهي في قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}([6])، وقد ظهر الفرق بين قوله: ((من أبصر بها))، ((ومن أبصر إليها))([7]))([8]).
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة لصبحي صالح: 106/ من كلام له عليه السلام رقم 82، ونهج البلاغة للشيخ العطار: 133/ ومن كلام له عليه السلام رقم 81، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 2: 227/ من كلام له عليه السلام رقم 79، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 142/ ومن كلام له عليه السلام في صفة الدنيا.
([2]) شرح الألفاظ الغريبة: 588.
([3]) كتاب كليلة ودمنة: 86، المطبعة الأميرية ببولاق القاهرة.
([4]) التغابن: 15.
([5]) فتاوى السبكي 1: 161.
([6]) طه: 131.
([7]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 2: 227-230 شرح كلامه عليه السلام 79.
([8]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص -288292.