بقلم: د. حسام عدنان الياسري.
الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وأزل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.
وبعد:
العَطَش ضد الري[1]. والعُطَاش - بالضم - شدة العطش[2]. وإبِلٌ عِطاش - بالكسر- شديدة العطش[3]. وعَطّشت الإبل تَعّطْيَشاً، إذا ازدادت على ظمئها في حبسها عن الماء، وذلك إذا كانت نوبتها في اليوم الثالث أو الرابع، فتسقيها فوق ذلك اليوم[4]. ولفظة (العِطَاش) من الفاظ نهج البلاغة؛ فقد استعملها الإمام مرة واحدة في كلامه[5]؛ للدلالة على داء العطاش الذي يصيب الإبل، فيبلغ شدته؛ فما تروى حتى إذا وردت الماء. وجاء ذلك في قوله (عليه السلام) الذي ينصح فيه الناس بالرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام)، وإعطائهم حقهم الذي وضعهم فيه الله تبارك وتعالى يقول الإمام: ((... وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ [6] نَبِيِّكُمْ؟ وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ، وأَعْلامُ الدِّين، وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ! فأنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ القُرْآنِ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ))[7]. يبين الإمام منزلة عترة النبي الأكرم، بوصفهم قادة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق، ولهذا أمر (عليه السلام) الناس، وأرشدهم إلى إنزالهم (بأحسن منازل القرآن). فوظّف الإمام لفظة (أزِمَّة)؛ للدلالة على كونهم القادة الذين يتبعهم الخلق إلى طريق الحق مثلما تقاد الناقة بالزمام؛ فهم الحبل الذي يتمسك به الخلق جميعاً في النجاة بإمساكه[8]، وذلك على سبيل التشبيه البليغ الذي تحصّل من تعبير(أزمّة الحق)، جاعلاً (الحق)بهيأة جملٍ ذي زمام، في تصوير فني أخرج باستعارة مكنية. كما استعمل لهم لفظ (الأعلام) و (أَلْسِنَة). فالاعلام باعتبار كونهم هداة الأمة، وأعلام الدين في الظهور والوضوح[9]. وأما وصفهم بـ (الألسنة)؛ فذلك لكونهم تراجمة الوحي الصادق مثلما يكون اللسان ترجماناً للنفس، فضلاً عن انهم لا يقولون إلا صدقاً[10]. وأشار (عليه السلام) بقوله (أحسن منازل القرآن) إلى منزلة الاكرام والتعظيم التي ينالها الذكر الحكيم في القلوب. فالمراد الوصية بإكرامهم ومحبتهم وتعظيمهم كما يكرم القرآن. ويبدو أن الإمام يومئ بقوله المتقدم إلى إنزال أهل البيت (عليهم السلام) المنزلة التي أحلهم فيها القرآن، وهي أحسن المحال، وذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}[11] أما الأمر بـ (وِرْدِهم) وتشبيه ذلك بورود الإبل الهيم العِطاش، فهو دعوة إلى التعلم منهم، والنهل من علومهم كما ترد الإبل العطشى الماء. وذلك أن هذا الضرب من الإبل تسعى إلى الماء عجلى بسبب ما يعتريها من الهيام حتى يدك بعضها البعض الآخر.
ويذكر اللغويون أن حالة (العُطِاش) بالكسر والضم هي أشد حالات عطش الإبل وأشدها[12]. وغالباً ما تكون هذهِ (العطاش) مما يرد الماء ويشربه ولكنه لا يروى منه. وجاء توظيف الإمام لهذهِ المفردة مناسباً للسياق الذي دعا فيه الناس إلى الورد من أهل البيت وعلومهم كما ترد الإبل العطاش وتقبل على الماء. فشَبّههم (عليه السلام) بينابيع الماء العذب التي تروي العطاش من الناس، في حين شبه الناس بعطاش الإبل التي لا ترتوي من الماء مهما شربت، كناية عن عدم تحقق الاكتفاء بعلومهم مهما نُهِل منهم)([13]).
الهوامش:
[1] ينظر: لسان العرب (عطش): 6/318، وتاج العروس (عطش): 17/267.
[2] ينظر: تاج العروس (عطش): 17/267.
[3] نفسه.
[4] ينظر: العين (عطش): 1/243، وتهذيب اللغة (عطش): 1/158.
[5] ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 306.
[6] العترة الاسرة، والرهط الأدنون، وأخص الأقارب. وهذهِ المفردة مخصوصة بالنبي الاكرم (صلى الله عليه وآله)، فعترته هم ولد فاطمة البتول (عليها السلام). ينظر: لسان العرب (عتر): 4/538.
[7] نهج البلاغة: خ/ 87: 143.
[8] ينظر: شرح نهج البلاغة (البحراني): 2/416، والديباج الوضي: 2/653.
[9] ينظر: شرح نهج البلاغة (البحراني): 2/ 416.
[10] نفسه.
[11] الشورى / 23.
[12] ينظر: النهاية في غريب الحديث: 3/57، وتاج العروس (عطش): 17/267، وتنظر مفردة (الهيم) في البحث.
([13]))لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 115-117.