(الدنيا والآخرة طريقان مختلفان)
الباحث: محمد حمزة الخفاجي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.وبعد:
لا بد للإنسان ان يسلك طريقاً واحداً، فلا يوجد خيار آخر فأما أن يختار الإنسان طريق الدنيا أو يختار طريق الآخرة ليصل الى غايته.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إِنَّ الدُّنْيَا والآخِرَةَ عَدُوَّانِ مُتَفَاوِتَانِ، وسَبِيلَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا وتَوَلَّاهَا أَبْغَضَ الآخِرَةَ وعَادَاهَا، وهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ ومَاشٍ بَيْنَهُمَا، كُلَّمَا قَرُبَ مِنْ وَاحِدٍ بَعُدَ مِنَ الآخَرِ، وهُمَا بَعْدُ ضَرَّتَانِ).
إن هذه الأمثال التي ضربها الإمام (عليه السلام) ليبين لنا مدى بعد الدنيا عن الآخرة وما هو الطريق الصحيح الذي لابد للإنسان من سلوكه. ويتضح من خلال النص ما يلي:
أولاً: قوله (عليه السلام): (الدُّنْيَا والآخِرَةَ عَدُوَّانِ مُتَفَاوِتَانِ).
إن الانشغال بالدنيا يُنسي الآخرة ويقسّي القلب فمن أحب الدنيا انشغل بملذاتها وترك ما توجب عليه من حقوق وفرائض ونسي الآخرة.
والتفاوت بين الدنيا والآخرة كبير جداً، فالدنيا صغيرة فانية، أما الآخرة كبيرة واسعة دائمة وهذا ما جعلهما نقيضين.
قال تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }[1].
ثانياً: قوله (عليه السلام): (وسَبِيلَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا وتَوَلَّاهَا أَبْغَضَ الآخِرَةَ وعَادَاهَا).
معنى سبيلين أي طريقين مختلفين، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ }[2].
وقوله تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }[3].
روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((جاء رجل إلى أبي ذر فقال: يا أبا ذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة فتكرهون أن تُنقلوا من عمران إلى خراب))[4].
فالإنسان المترف والذي فُتن بالمال والبنين والدار الواسعة يبقى غافلا عن الآخرة وإذا ذُكّر بها لا يأبه لها, ذلك بسبب اتباع الهوى وطول الأمل وحب الدنيا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه)[5].
وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيراً ما ينصح الناس ويذكرهم بالآخرة قال (عليه السلام): (وأَنْتُمْ بَنُو سَبِيلٍ عَلَى سَفَرٍ مِنْ دَارٍ لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ)[6].
ومثل هذه النصائح كثيرة لا تعد ولا تحصى لكن أكثر الناس يميلون حيث مالت أهواءهم مفتونين بزينة الدنيا.
ثالثاً: قوله (عليه السلام): (وهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ ومَاشٍ بَيْنَهُمَا، كُلَّمَا قَرُبَ مِنْ وَاحِدٍ بَعُدَ مِنَ الآخَرِ وهُمَا بَعْدُ ضَرَّتَانِ).
وهذا التشبيه يوضح لنا مدى بعد الدنيا عن الآخرة فشتان ما بين الاثنين، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[7].
ومن كلام آخر له (عليه السلام) قال: (وعَجِبْتُ لِعَامِرٍ دَارَ الْفَنَاءِ وتَارِكٍ دَارَ الْبَقَاءِ)[8]. إذ يعجب الإمام (عليه السلام) ممن يعمر داراً فانية ويخرب داراً باقية.
وقوله: (وهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ). فالدنيا والآخرة كل واحد منهما باتجاه يناقض الآخر, فواحدة في جهة والأخرى في جهة ثانية, فكلما اتجه الإنسان صوب الدنيا لفته بحبالها ومنعته من الرجوع بسبب زينتها، قال الإمام علي (عليه السلام): (إن الدنيا كالشبكة تلتف على من رغب فيها)[9].
أما الزاهد فيها فلا سبيل لها عليه قال (عليه السلام): (وإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلِيٍّ ولِنَعِيمٍ يَفْنَى ولَذَّةٍ لَا تَبْقَى)[10].
ومن كتاب له (عليه السلام), لشريح القاضي عندما سمع به اشترى داراً فقال له: (أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اشْتَرَيْتَ، لَكَتَبْتُ لَكَ كِتَاباً عَلَى هَذِه النُّسْخَةِ، فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هَذِه الدَّارِ بِدِرْهَمٍ فَمَا فَوْقُ، والنُّسْخَةُ هَذِه، هَذَا مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ مِنْ مَيِّتٍ قَدْ أُزْعِجَ لِلرَّحِيلِ، اشْتَرَى مِنْه دَاراً مِنْ دَارِ الْغُرُورِ، مِنْ جَانِبِ الْفَانِينَ وخِطَّةِ الْهَالِكِينَ)[11].
والله جل وعلا, جعل الإنسان مخيراً فمن شاء أن يكون من أصحاب اليمين أعانه ومن شاء أن يكون من أصحاب الشمال جعله من أصحاب الشمال قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[12].
وقد شبّه (عليه السلام) الدنيا والآخرة بالضرتين بقوله (وهُمَا بَعْدُ ضَرَّتَانِ).
وهو وصف لتباعد هاتين الدارين، فنسأل الله لنا ولكم السداد والثبات على طريق أمير المؤمنين (عليه السلام).
الهوامش:
[1] - الحديد: 20.
[2] - ابراهيم: 3.
[3] - المؤمنون: 33.
[4] -الكافي، ج2، ص458.
[5] - دعائم الإسلام، القاضم النعماني المغربي، ج1، ص82.
[6] - نهج البلاغة، الخطبة: 182، ص266.
[7] - العنكبوت: 64.
[8] - الحكمة: 126.
[9] - ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج2، ص904.
[10] - نهج البلاغة، 224 ومن كلام له ( ع ) يتبرأ من الظلم، ص346.
[11] - الكتاب: 3، من كتاب له (عليه السلام) لشريح بن الحارث قاضيه.
[12] -النحل: 93.