الباحث: عماد طالب الخزاعي
الحمد لله الذي جعل العلم للعلماء نسبا، وأغناهم به وإن عُدموا مالا ونسبا، والصلاة والسلام على محمد المصطفى وآله الطاهرين معدن العلم النجباء. أما بعد:
فأعطى عليٌّ عليه السلام لكل مرحلة خطابها، ولكل موقف معالجاته، حتى غدا أثره بلسما لجميع مواقف الحياة، وأزمة المجتمعات. ونطالع في هذه السلسلة البحثية جنبة من جنبات تلك المعالجات الناجعة في قهر الأزمة وتجاوز الآفات التي تعصف في بُنيَّات المجتمع - أي مجتمع- بين الفينة والأخرى، ونقصد كلامه الذي بيَّن فيه عليه السلام أساسيات الحرب وفنونه، بغض النظر عن أدوات القتال المستعملة بين ذلك الزمان وما نحن عليه في زماننا هذا، ولكن لنقف على براعة التوظيف وحسن استعمال الأدوات المتاحة، وآلية بناء المقاتل جسديا ومعنويا، ونظرا لحجم الخطبة تعذر أن تقدم على شكل مقال واحد ولذلك أثرنا أن تقدم على شكل سلسلة من المقالات القصيرة حتى نواكب حجم المقالة، وفقرات موضوعاتها.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ، وَتَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ... وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللهِ، وَمَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله))([1]).
1- البناء الموضوعي للخطبة المباركة:
من يدقق النظر في البناء الموضوعي للخطبة يجدها تقوم على قسمين: القسم الأول عالج فيه عليه السلام أساليب الحرب وفنونه، أما القسم الثاني فتمثل برفع معنويات جنده( عليه السلام) وأوصاهم بالثبات في القتال بغية استئصال شأفة العدو، وسنعرض بالتحليل لكلا القسمين:
القسم الأول: اساليب القتال وفنونه:
أشار الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة إلى تسعة من أساليب القتال وفنونه العملية في ساحة المعركة، نذكر منها في هذا المقال أسلوبين وبحسب الآتي:
أولا: قال(عليه السلام): (معاشر المسلمين استشعروا الخشية)
الاستشعار من مادة شعر ((والشِّعار: ما استشعرت به من اللّباس تحت الثياب. سمي به لأنّه يلي الجسد دون ما سواه من اللباس، وتقول: أنت الشِّعار دون الدثِّار، تصفه بالقرب والمودَّة))([2])، وينطق بناؤها الصرفي بالدلالة على إفادة معنى الطلب([3])؛ لأن الزيادة في المبنى تؤدي إلى زيادة في المعنى([4]) وتشعر هذه الزيادة بجهد يبذله المقاتل لترويض نفسه على خشية الله واستحضار التقوى كي يعود عمله خيرا عليه، والمعنى اجعلوا الخوف من اللّه تعالى شعاركم، وتجلببا من مادة جلباب الثوب المشتمل على البدن وعادة ما يطلق على الثوب الذي تستر به المرأة رأسها وعنقها وبعض صدرها وظهرها، وهو أطول من الخمار وأقصر من الرداء([5]).
يؤكد الإمام(عليه السلام) على وجوب اختلاط خوف اللّه وخشيته والشعور بالمسؤولية تجاه أوامر اللّه في طاعتها وامتثالها بروح المقاتل وقلبه، ولعل هذا أهم الدوافع التي ينبغي أن يتحلى به المقاتل المؤمن فيمنحه الثبات والصمود تجاه العدو، وهذا البناء الروحي لديناميكية المقاتل المسلم قد لا نجده خارج فلسفة علي( عليه السلام) حتى في زمانه( عليه السلام) وقبله، وأمثلة عدم استشعار الخشية كثيرة في جيوش أعدائه من بدر وحتى الجمل وصفين والنهروان وامتد ضياع جوهر المقاتل المسلم الى العصر الحديث وما هذه الاقتتالات الطائفية، والاضطرابات الدولية الا نتيجة لتضييع المجتمع المسلم هذه البنود العلوية التي هي بطبيعة الحال امتدادا للمبادئ النبوية البناءة التي نزلت من السماء، فاستشعار خشية الله سبحانه في الحرب يجعل جهاد الفرد المسلم خالصا لوجهه سبحانه وتعالى؛ لأن الخشية هي خوف يشوبه تعظيم وهذا التعظيم يقوم على علم المُعظِّم بقدرة المُعظَّم([6]).
ثانيا: (وتجلببوا السّكينة ).
الذي أكده الإمام (عليه السلام) هو أن يتحلى المقاتل بالسكينة والحلم والوقار؛ لأنّ أدنى اضطراب في ميدان القتال أمام العدو إنّما يكشف عن الضعف والعجز، وهذا ما يجعل العدو في مطمع من اقتحام الميدان واللجوء إلى الهجوم.
والواقع أنّ الأفراد الأقوياء والشجعان يتصفون دائما بالتماسك وضبط النفس، بينما يعيش الضعفاء والجبناء حالة من الاضطراب والقلق على الدوام. ومصطلح (السكينة) قد حكاه القرآن الكريم في غير موضع اشعارا بشأن السكينة وأهميتها، قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِـينَةَ فِي قُلُوبِ المُـؤْمِنِـينَ لِـيَزْدادُوا إِيْماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلّهِ جُنُودُ السَّمـواتِ وَالأَرْضِ وَكانَ اللّهُ عَلِـيماً حَكِـيماً))([7])، وفي موضع آخر ورد قوله تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا))([8])، إذ وردة ( السكينة) مرتين في سورة الفتح، وقد سبقت لفظة ( السكينة) بلفظة( الفتح) في الآية الأولى، بينما ختمت باللفظة نفسها في الآية الثانية، وقد رمز لها الإمام علي عليه السلام) في خطبته التفاعلية ليعيد المسلمين الى أجواء عصر فجر الرسالة أيام رسول الله ( صلى الله عليه وآله) ليضفي الطمأنينة والسكينة عليهم، ويوثق عقيدتهم بصحة الطريق الذي يسيرون فيه مع ابن عم الرسول(صلى الله عليه وآله)، ولذلك نجد الإمام قد مدهم بعامل آخر في تقوية عزيمتهم عند قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللهِ، وَمَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله))، وهذه السكينة كانت هي العامل الذي وقف وراء انتصار المسلمين في كافة الغزوات التي خاضوها ضد معسكر الكفر والشرك، وهى التي شدت أزر النبي(صلى الله عليه وآله) في أثناء تلك الشدائد كدخوله (صلى الله عليه وآله) إلى غار جبل ثور وكان العدو يقف على باب الغار بحثاً عنه([9]).
ولا نغفل رمزية الثنائية التي قدمها الإمام علي عليه السلام في قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللهِ، وَمَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله))، فالمقطع الأول منها: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللهِ) له امتداد قرآني دقيق ومصاديقه كثيرة فيه وكلها تدل على العناية والاهتمام، ومنها ما ورد في الآيات الآتية: ((أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي))([10])، ((وَلِتُصْنَعَ بِكَسْرِ لَامِ كَيْ وَضَمِّ التَّاءِ وَنَصْبِ الْفِعْلِ أَيْ وَلِتُرَبَّى وَيُحْسَنَ إِلَيْكَ. وَأَنَا مُرَاعِيكَ وَرَاقِبُكَ كَمَا يُرَاعِي الرَّجُلُ الشَّيْءَ بِعَيْنَيْهِ إِذَا اعْتَنَى بِهِ))([11])، وفي وقوله تعالى: ((وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ))([12])، وقوله تعالى: ((فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ))([13])، وقال تعالى: ((وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ))([14])، وقوله تعالى: ((وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ))([15])،ثم انتقل الى البعد النبوي وهو الخط الذي يساير القرآن ويفسره، فعبارة (وَمَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) ولربما كان من مقاصد الإمام الكامنة في هذه العبارة القربى الروحية المرتبطة بالتنزيل والوحي، ولا يمنع ذلك من أرادة القربى النسبية معها؛ لأنهما متعانقتان بينهما عليهما السلام كتعانق النبوة والإمامة، أو النبوة والوصاية بينهما عليهما السلام، ومحصلة القول أن هذين البعدين الإشاريين يقدمان زخما معنويا يرفع من همة أصحاب الإمام علي عليه السلام في مواجهة الأعداء.
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 104.
([2]) العين: 1/ 251، وينظر: تهذيب اللغة: 1/ 267.
([3] ) ينظر: شرح المفصل: 7/ 161.
([4] ) إسفار الفصيح، محمد بن علي بن محمد، أبو سهل الهروي (المتوفى: 433هـ): 1/ 176.
([5]) ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 7/ 439.
([6]) معجم الفروق اللغوية، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ)، تحقيق: الشيخ بيت الله بيات، ومؤسسة النشر الإسلامي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بـ «قم»، ط1، 1412هـ: 1/ 218.
([7]) سورة الفتح: 4.
([8]) سورة الفتح: 18.
([9]) ينظر: نفحات الولاية في شرح نهج البلاغة: 3/ 56.
([10]) سورة طه: 39.
([11]) البحر المحيط في التفسير: 7/ 332.
([12]) سورة هود: 37.
([13]) سورة المؤمنون: 27.
([14]) سورة الطور: 48.
([15]) سورة القمر: 13- 14.