عن جابر، قال: كانت ظئرة علي التي أرضعته امرأة من بني هلال، خلفته في خبائها مع أخ له من الرضاعة، وكان أكبر منه سناً بسنة. وكان عند الخباء قليب (أي بئر). فمر الصبي نحو القليب، ونكس رأسه فيه، فتعلق بفرد قدميه، وفرد يديه. أما اليد ففي فمه، وأما الرجل ففي يديه.
فجاءت أمه فأدركته، فنادت في الحي: يا لَلحي من غلام ميمون، أمسك عليَّ ولدي، فمسكوا الطفل من رأس القليب، وهم يعجبون من قوته، وفطنته، فسمته أمه مباركاً(1).
وكان أبو طالب يجمع ولده، وولد أخوته، ثم يأمرهم بالصراع. وذلك خلق في العرب، فكان "عليه السلام" يحسر عن ذراعيه، وهو طفل، يصارع كبار أخوته وصغارهم، وكبار بني عمه وصغارهم، فيصرعهم، فيقول أبوه: ظهر علي، فسماه ظهيراً(2).
فلما ترعرع "عليه السلام" كان يصارع الرجل الشديد، ويعلق بالجبار(3) بيده، ويجذبه فيقتله.
وربما قبض على بطنه ورفعه في الهواء.
وربما يلحق للحصان الجاري، فيصدمه، فيرده على عقبيه.
وكان يأخذ من رأس الجبال حجراً، ويحمله بفرد يديه، ثم يضعه بين الناس، فلا يقدر الرجل، والرجلان، وثلاثة على تحريكه، حتى قال أبو جهل:
يـا أهـل مكة إنَّ الذبـح عندكـم هـذا عـلي الـذي قـد جلّ في النظرِ
مـا إن لـه مشبه في النـاس قاطبـة كـأنـه النـار تـرمـي الخلق بالشررِ
كـونـوا على حـذر منـه فـإن لـه يـومـاً سيظهره في البـدو والحـضرِ
وإنه "عليه السلام" لم يمسك بذراع رجل قط إلا أمسك بنفسه، فلم يستطع يتنفس(4) ونقول:
1 ـ إن ما جرى لولد تلك المرأة التي يحتمل أن تكون مرضعة لعلي "عليه السلام"، أو أنها كانت تعيش معهم وبجوارهم يشير أولاً إلى: إدراك علي "عليه السلام" ـ وهو في المهد الخطر الـذي يتهدد أخاه من الرضـاعـة، ـ حسب زعمهم ـ لو أنه أفلت من يده، وأن عليه أن يواصل الإمساك به إلى أن يأتي من يخرجه من مأزقه..
هذا.. ولا ندري ما الحاجة إلى المرضعة مع وجود الأم الحقيقية، فهل هي أطهر منها لبناً، أو أنصح منها جسداً، أو هي أكثر بركة، أم ماذا؟!
ويشير ثانياً: إلى القدرة التي منحه الله إياها وهو في هذا السن، وقد أدرك الناس هذين الأمرين فيه، كما صرحت به الرواية، حيث قالت: "وهم يعجبون من قوته وفطنته".
وقد تركت هذه الحادثة أثرها في الناس حيث قالت ظئره: يا للحي من غلام ميمون، حيث عرفت أن هذا التصرف ليس أمراً عارضاً ولم يأت صدفة، بل هو نتيجة اليمن الذي لا يأتي إلا من الله تبارك وتعالى، لأنه تعبير عن عناياته وألطافه بهذا الطفل، الذي استحق منه ذلك، ولأجل ذلك سمته مباركاً.
كما أن تلك المرأة قد اعتبرت أن هذا اليمن سيترك أثره وبركاته على الحي كله.. ولم تحصره في بيتها. ولذلك قالت: "يا للحي من غلام ميمون".
2 ـ لقد كان من الطبيعي أن يثير كل هذا الذي يفعله "عليه السلام" في صغره من استعراض للقوة اهتمام الناس.. لا سيما، وأنه يسجل له تقدماً عليهم في أمر يعنيهم كلهم، كأفراد، يسعى كل واحد منهم ليكون له حضوره ودوره اللافت في خصوص هذه المجالات..
أما تميزه عليهم في العلم، والإدراك، وفي سائر الفضائل والكمالات التي اختصه الله بها دونهم، فربما لم يكن يعنيهم كثيراً.. ولم يكن لديهم الكثير من الطموح للتحلي به، أو للمنافسة فيه.
3 ـ إنَّ أبيات أبي جهل قد أوضحت لنا الأمور التالية:
ألف: إنَّه أعلن عن أنه يعتبر أن ظهور قدرة علي "عليه السلام" مصدر خطر كبير، لا بد من التنبه له، والحذر منه.. مع أن علياً "عليه السلام" كان منهم، فالمفترض أن يكون كل فضل حبا الله به علياً "عليه السلام" مصدر شعور بالأمن والسكينة لهم، ومن موجبات اعتزازهم، ودواعي فخرهم.
ولكن الحقيقة هي: أن الذين لا يؤمنون بالله لا يحبون المؤمنين والصالحين، بل هم لا يحب بعضهم بعضاً أيضاً، وهم كما قال الله سبحانه: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}(5) لأنهم لم يجعلوا الله في قلوبهم، ليجمع تلك القلوب على حبه، ويكون هو المحور للحب والبغض، والالتقاء والافتراق، والاتفاق والاختلاف.
ولأجل ذلك يخاف الأب من ابنه، وكذلك العكس، والأخ من أخيه. فكيف إذا كان أخوه أو قريبه من أهل الإيمان والصلاح!! فإنَّه لا يكون بينهم وبينه جامع، ولا عن العدوان على أي كان من الناس، وسائر المخلوقات رادع..
ب: إن أبا جهل يعترف لعلي بأنه قد احتل ـ رغم صغر سنه ـ مكانة خاصة، وأصبح له مقام جليل بنظر الناس.. بل هو يعترف بأنه لا نظير له في الناس قاطبة.
ج: إنه يصف علياً "عليه السلام": بأنه بمثابة نار ترمي الخلق بالشرر.. مع أن هذا التوصيف لا مبرر له إلا في الذهنية الجاهلية التي تنظر إلى الأمور بمنظار أسود، وإلا فإنَّ علياً "عليه السلام" لم يستعمل قوته هذه ضد أحد.
وقد كان الأولى بأبي جهل: أن ينظر إلى هذه المنحة الإلهية لعلي على أنَّها لخير الناس، ولصلاحهم، ومن أسباب النجاح والفلاح لهم، ودفع العوادي والآفات والمضار عنهم. لا سيما وأنه "عليه السلام" يتربى ويترعرع في بيوت الشرف والكرامة والاستقامة، والخير والصلاح.
د: لنفترض: أن هذه القدرة قد تكون مضرة، ولكن لماذا هذا التهويل بها، والتضخيم لها؟!
ولماذا يفترض أن هذا الضرر سيعم الخلق بأجمعهم، ولا يعتبره مقتصراً على فئة بعينها؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مناقب آل أبي طالب ج2 ص288 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص120 ومعاني الأخبار ص60 والمحتضر للحلي ص87 وبحار الأنوار ج35 ص47 وج41 ص275 والدر النظيم لابن حاتم العاملي ص245 ونهج الإيمان ص631.
2- راجع: مناقب آل أبي طالب ج2 ص288 و 289 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص121 وبحار الأنوار ج41 ص275 ومستدرك سفينة البحار ج6 ص269.
3- الجبار: الرجل القوي.
4- راجع ما تقدم في: مناقب آل أبي طالب ج3 ص289 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص121 وبحار الأنوار ج41 ص275 ومستدرك سفينة البحار ج8 ص636.
5- الآية 14 من سورة الحشر.
(الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام), (المرتضى من سيرة المرتضى), الجزء الأول, السيد جعفر مرتضى العاملي, 137-140),