الباحث: عماد طالب موسى
الحمد لله الذي قال: (( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ))([1])، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى وأهل بيته الذين ((هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ، وَعِمَادُ اليَقِينِ، إِلَيْهمْ يَفِيءُ الغَالي، وَبِهِمْ يَلْحَقُ التَّالي، وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الوِلايَةِ، وَفِيهِمُ الوَصِيَّةُ وَالوِرَاثَةُ، الاْنَ إِذْ رَجَعَ الحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ، وَنُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ))([2]).
استكمالا للمقال السابق الذي نوهنا فيه ما نروم طرحه من ذكر ما تَمَيَّزَ به عليٌّ عليه السلام أو انفردَ به جاءَت هذه المقالةُ لتكشفَ عن جنبةٍ معينةٍ كان للإمامِ بها الأوَّلِيَّةُّ، وانطلاقا من قوله عليه السلام الذي يصف به أهل البيت عليهم السلام( هم أساس الدين، وعماد اليقين) إذ يكشفُ عن اشتغالاتٍ لغويةٍ متتابعةٍ تبيِّنُ عمليةَ بناءِ الدينِ الإسلامي، فلفظا (أساسٍ) و(عمادٍ) يعربان عن مقاصدَ أقل ما يكون منها الإشارة إلى السبق في الإسلام والدعوة له؛ لأنَّ مفردة (أساس) تطلق على (أس الْبناء وَالْجمع آساس: مَعْرُوف)([3])، و(عماد) من (تعمّد الشيء بعمادٍ يمسكه ويعتمد عليه)([4])، و( عَمَدْتُ الشَّيْءَ: أَسْنَدْتُهُ. وَالشَّيْءُ الَّذِي يُسْنَدُ إِلَيْهِ عِمَادٌ)([5])، فهو عليه السلام (أَوَّلُ مَنْ) آمن بالرسول صلى الله عليه وآله وصدَّقه، ومع ذلك كان ابن عمه وتربى في حجره وأوصاه أبوه أبو طالب بنصره، وكان يُنِيمُه في حصار الشعب في فراشه فنشأ على حبِّ الرسولِ ونصرَهُ وبالغَ في نصرِ الإسلامِ مع ما أوتيه من قوة وشجاعة فائقة وصبر وجلد فـ( لم يكفر بالوحي طرفة عين)([6]).
ويطيب لنا أن نعرج على حادثة تُعد مصداقا لقول أمير المؤمنين عليه السلام السابق نتغيا منها بيانَ أوَّليةِ عليٍّ عليه السلام في تأسيس الدين، وأنه لم يسبقه فيه أحدٌ بعد الملهم الأول صلى الله عليه وآله، وهذه الحادثة تعد أول اجتماع قرشي يُناقش فيه الدين الإسلامي ونبوة محمد صلى الله عليه وآله، إذ جمع الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كبار قريش في بيته وأطلعهم على النبأ العظيم، فقال لهم: ((يا بني عبد المطلب ، إن الله بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال عز وجل:(وانذر عشيرتك الأقربين)([7]) وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به ، يكن أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي))([8])، فلم يجب أحد منهم، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): فقمت بين يديه من بينهم – وأنا إذ ذاك أصغرهم سنا، وأحمشهم([9]) ساقا، وأرمضهم([10]) عينا- فقلت: أنا- يا رسول الله - أؤازرك على هذا الأمر. فقال: اجلس، ثم أعاد القول على القوم ثانية فاصمتوا، وقمت فقلت مثل مقالتي الأولى، فقال: اجلس. ثم أعاد على القوم مقالته ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقلت: أنا أؤازرك - يا رسول الله على هذا الأمر، فقال: اجلس، فأنت أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي. فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يا أبا طالب ، ليهنك، اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك ، فقد جعل ابنك أميرا عليك([11]).
ومن هذا الحديث يتبين: أنَّ المرحلة التأسيسية للدين بُنِيَت على أكتاف النبي وأهل بيته عليهم السلام وشيعتهم؛ لأن مرحلة التشيع لم تكن شيئاً مفصولا عن مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية، التي باشرها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؛إذ إنَّ أول عمل قام به الرسول خلال الدعوة السرية هو ربط الإسلام بالإمام علي (عليه السلام)، وعرف هذا الحديث بحديث الدار فجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام عليًّا (عليه السلام) وصيًّا له وخليفة من بعده كما تقدم.
والغريب في الأمر أصبح من كان عدوا للإسلام وقاتلَ على منع انتشاره يقدم نفسه للخلافة بعد الرسول وينازع من ( هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ، وَعِمَادُ اليَقِينِ، إِلَيْهمْ يَفِيءُ الغَالي، وَبِهِمْ يَلْحَقُ التَّالي، وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الوِلايَةِ، وَفِيهِمُ الوَصِيَّةُ وَالوِرَاثَةُ، الاْنَ إِذْ رَجَعَ الحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ، وَنُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ)([12])، لذلك يقول الإمام علي عليه السلام( وَهَلُمَّ الْخَطْبَ فِي ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي الدَّهْرُ بَعْدَ إبْكَائِهِ، وَلاَ غَرْوَ وَاللهِ، فَيَا لَهُ خَطْباً يَسْتَفْرِغُ الْعَجَبَ، وَيُكْثِرُ الاَوَدَ، حَاوَلَ الْقَوْمُ إِطْفَاءَ نَورِ اللهِ مِنْ مِصْباحِهِ، وَسَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ يَنْبُوعِهِ)([13])، فسلام عليك يا أبا الحسن من صابر عابد مجاهد قد قُرِحَ قلبك، وغُصِب حقك، ونُهب أرثك.
الهوامش:
([1]) سورة الأنبياء: 101- 103.
([2]) نهج البلاغة، تحقيق: الشيخ محمد عبده: 1/ 30.
([3]) العين: 2/ 57.
([4]) جمهرة اللغة: 1/ 238.
([5]) مقاييس اللغة: 4/ 137.
([6]) تاريخ بغداد: 14/ 155.
([7]) الشعراء: 214.
([8]) الإرشاد، الشيخ المفيد(ت: 413هـ): 1/ 49، وينظر: وعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطوسي(ت: 548هـ)، : 1/ 322، و كشف اليقين، العلامة الحلي(ت: 726هـ): 258، والغدير، الشيخ الأميني(ت: 1392هـ: 2/ 282.
([9]) حمش: رجلٌ أَحْمَشُ الساقين: دقيقهما. ينظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: 3/ 1002.
([10]) الرمض : وسخ يجتمع في مجرى الدمع ، ينظر: الصحاح :3 / 1042 .
([11]) ينظر: الإرشاد: 1/ 50، وأعيان الشيعة: 1/ 231.
([12]) نهج البلاغة، تحقيق: الشيخ محمد عبده: 1/ 30.
([13]) نهج البلاغة، تحقيق: الشيخ محمد عبده:2/ 64.