الباحث: م.م. عمار حسن الخزاعي
تمثل اللغة الهوية والانتماء لكلِّ أمَّة، وبحياتها تحيا الأمم وتموت بموتها، وتقاس قوَّة الشعوب بقوة لغتها، ولذلك حرصت الأمم منذ القدم على حفظ لغاتها، وذلك عن طريق دراستها وتقيدها، واستمرَّ ذلك إلى اليوم عن طريق إعداد برامج متقنة تهدف إلى وضع سياسة وتخطيط منظم يهدف إلى حفظ اللغة وحمايتها من الانقراض .
ولو أردنا تتبع تاريخ الاهتمام باللغات لوجدنا الإمام علي (عليه السلام) من أوائل المؤسسين للتخطيط اللغوي، إذ إنَّه كان يمثِّل السلطة العليا في عصر خلافته، وكان يُتابع شؤون الدولة على كافَّة مستوياتها، ومن ذلك اللغة العربية التي كانت تمثل اللغة الرسمية في البلاد العربية والإسلامية بوصفها لغة القرآن الكريم الذي يمثل دستور الإسلام، فتذكر الروايات أنَّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) سمع لحناً (خطأ لغوياً) في الكلام فانبرى من ساعته يؤسِّس لسياسة لغوية محكمة، فشرع في وضع أسسها ومفاهيمها ثمَّ استدعى أحد أصحابه وهو أبو الأسد الدؤلي، وقد روى حادثة اللقاء التي على أساسها تمَّ وضع أسس علم العربية فقال: ((دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [عليه السلام]، فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء -يعني الأعاجم- فأردت أن أضع لهم شيئاً يرجعون إليه، ويعتمدون عليه، ثم ألقى إليّ الرقعة، وفيها مكتوب: الكلام كله اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما جاء لمعنى، وقال لي: \\\\انحُ هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك، واعلم يا أبو الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسمٌ لا ظاهر ولا مضمر؛ وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهرٍ ولا مضمر\\\\ وأراد بذلك الاسم المبهم))([1])، ولم يقف توجيه أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أبي الأسود عند هذا الحد، وإنَّما ظل متابعاً له على طول مدَّة التأسيس إلى أن أتمَّ عمله، وقد بيَّن ذلك أبو الأسود بقوله: ((وضعت بابي العطف والنعت ثم بابي التعجب والاستفهام إلى أنَّ وصلت إلى باب إنَّ واخواتها ، ولم اذكر (لكنّ) فقال لي: لمَ تركتها فقلت : لم أحسبها منها، قال فزدها فيها وكنتُ كلما وضعتُ باباً من أبواب النحو عرضته عليه إلى إنَّ حصلت ما فيه الكفاية قال : ما احسن هذا النحو الذي قد نحوت))([2])، وبذلك يكون الإمام علي (عليه السلام) ((أول من وضع علم العربية، وأسس قواعده، وحد حدوده، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [عليه السلام]، وأخذ عنه أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي))([3]) .
وقد نصَّ كثير من العلماء على أنَّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو من وضع علم النحو ومنهم: أبو الطيب اللغوي (ت 351 هـ)([4])، وأبو بكر الزبيدي (ت379ه)([5])، والسيرافي ( ت386ه)([6])، وابن الجوزي (ت597ه)([7])، وابن كثير الدمشقي (ت774ه) ([8]) . وأمَّا ابن النديم (ت 380ه) فإنَّه نصَّ على أنَّ أكثر العلماء زعموا أنَّ النحو ((أُخذ عن أبي الأسود الدؤلي وأنَّ أبا الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب))([9])، أمَّا السيّد محسن الأمين فإنَّه نقل اتفاق الرواة وأهل العلم على أنَّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) هو أول من وضع علم النحو وذلك بقوله : (( أول من وضع النحو باتفاق الرواة وأهل العلم امير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ألقاها إلى أبي الأسود الدؤلي ))([10]) .
ولم تقف استراتيجية الإمام علي (عليه السلام) اللغوية عند هذا الحد، وإنَّما أسَّس لحفظ المصحف الشريف دستور الإسلام القرآن الكريم، وذلك عندما رأى اللحن في قراءته فوجَّه أبو الأسود الدؤلي إلى تنقيط المصحف، وقد أشار إلى ذلك ابن حجر العسقلاني (ت852ه) بروايته عن أبي عليٍّ القالي عن الزجاج عن المبرد قال : (( أوّل من وضع العربية ونقط المصاحف أبو الأسود وسُئِل أبو الأسود عمن نهج له الطريق ، قال : تلقيته عن علي بن أبي طالب [عليه السلام]))([11]).
والتنقيط: هو وضع نقط الأعجام على الحروف تميزاً لبعضها عن بعضها الآخر، كما في القاف والفاء، والدال والذال، والعين والغين وغيرها .
الهوامش:
([1]) نزهة الألباء في طبقات الأدباءأبو البركات، كمال الدين الأنباري: 1/18 – 19 ، ينظر: معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي: 4/1813 ، إنباه الرواة على أنباه النحاة، جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القفطي: 1/40
[2] نزهة الألباء في طبقات الأدباء: 1/18 – 19
[3] المصدر نفسه: 1/17 .
[4] مراتب النحويين ، لأبي الطيب اللغوي : 6.
[5] طبقات النحويين واللغويين ، لأبي بكر الزبيدي : 5.
[6] يُنظر : أخبار النحويين البصريين ، للسيرافي : 12.
[7] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ، ٱبن الجوزي : 6/345.
[8] البداية والنهاية ، ﭐبن كثير الدمشقي : 8/248.
[9] الفهرست ، لأبن النديم : 66 .
[10] أعيان الشيعة ، محسن الأمين : 1/161.
[11] الإصابة ، ﭐبن حجر العسقلاني : 30.