الْحَمْدُ للهِ كُلَّمَا وَقَبَ لَيْلٌ وَغَسَقَ، وَالْحَمْدُ للهِ كُلَّمَا لاَحَ نَجْمٌ وَخَفَقَ، والْحَمْدُ للهِ غَيْرَ مَفْقُودِ الأنْعَام.
أما بعد:
فيعد كلام الإمام علي عليه السلام ميزانا للحكمة معنى، ودليلا وشاهدا للنحاة شكلا، وهو بين ذينك معدن العلم والبلاغة، وينبوع لمختلف العلوم الأخرى، فكان وما يزال محط انظار الباحثين على اختلاف قرائحهم العلمية وامكاناتهم الادبية، لاسيما المشتغلين في الصروح الأكاديمية فلا أروع ولا أفضل من أن يجني الباحث الأكاديمي في دراسته (ماجستير- دكتوراه) الحسنيين: حسنة التوفيق في التفكر والبحث في كلام سيد البلغاء، وحسنة سد أحد متطلبات المرحلة العلمية، ومن الدراسات التي تتبعت أقوال الإمام علي عليه السلام في المصنفات اللغوية هي (أقوال الإمام علي عليه السلام في التراث النحوي والأدبي) للباحثة بدور عبود الغزي.
ولا تخفى الجهود العلمية التي بُذلت في تتبع وتحليل كلام الإمام عليه السلام في سياق تأييد القاعدة النحوية، أو الأمثلة الصرفية، أو الملامح الدلالية، وهي تسير على منهجية جيدة في تقديم المادة فكانت بحسب الآتي:
تتكون الدراسة من مقدمة، وتمهيد، وثلاثة فصول وخاتمة، وقد صُدر التمهيد بعنوان: بلاغة الإمام علي عليه السلام وفصاحته وشيء من علومه، وجاء الفصل الأول بعنوان: المستوى النحوي في أقوال الإمام علي عليه السلام، وكان الفصل الثاني بعنوان: المستوى الصرفي في أقوال الإمام علي عليه السلام، أما الفصل الثالث فقد ختم الدراسة تحت عنوان: المستوى الدلالي في أقوال الإمام علي عليه السلام.
وهذا التقسيم يوحي بأن هذه دراسة تطبيقية بحسب مستويات اللغة على أقوال الإمام علي عليه السلام، وأرى عنوانات الفصول كانت أفضل لو حملت قيد العنوان، فالعنوان وكذا مضمون الدراسة يشتغل على أقوال الإمام علي عليه السلام التي استشهد بها النحويون لتعزيز أو إثبات قاعدة أو ظاهرة إعرابية.
أما ما ورد في طيات الدراسة فهو يسير على منهجية واحدة متمثلة بذكر عنوان الظاهرة الإعرابية، أو الصيغة الصرفية، أو المنحى الدلالي وشرحه بصورة مقتصرة ثم ذكر قول الإمام علي عليه السلام الذي استشهد به اللغويون لتقوية رأيهم أو التمثيل للقاعدة موضع الحديث.
ومن الأمثلة التي ذكرها الباحث، نختار ما ورد في الاستثناء، وتحديدا تحت عنوان (الاستثناء المفرغ) ومعناه (( هو ما حذف من جملته المستثنى منه وشرطه أن يكون الكلام غير موجب، بأن يسبق بنفي أو نهي أو استفهام)) أي المستثنى منه غير مذكور والمستثنى يعرب بحسب موقعه في الجملة، ولا يكون هذا الاستثناء الا في غير الموجب، وهو المسبوق بنفي، أو نهي ، أو استفهام نحو قوله تعالى: ((هل هذا إلا بشرٌ مثلكم)) الأنبياء/ 3، ولا يجوز وقوعه في الموجب. ثم تستشهد الباحثة بقول الإمام علي عليه السلام: ((قد كنت وما أهدَّدُ بالحرب)) وهي تقول ومن أقوال الإمام علي عليه السلام التي استشهد بها في ذلك قوله: وتذكر هذا القول (قد كنت وما أهدد بالحرب) ولا أعلم على ما تشير بقولها (في ذلك)، هل هذا المثال فيه استثناء مفرغ، وإذا كان كذلك أين أداة الاستثناء التي يطلب ما قبلها ما بعدها بعمل، واذا لم يكن هذا الشاهد من هذا القبيل ولا علاقة له بالاستثناء فلما زجته هنا من دون بيان لقصد رضي الدين الاستراباذي على الاستشهاد به.
والحق أن هذا القول- قول الإمام عليه السلام- قد ورد في ذيل الحديث عن الاستثناء المفرغ لبيان جزئية مشابه لجزئية الاستثناء المفرغ وهي إمكان وقوع (الواو) بعد (إلا) في الاستثناء المفرغ فيقول: ((وأما وقوع واو الحال بعدها نحو : ما جاء زيدٌ إلا وغلامُه راكب فلعدم ظهور عمل الفعل لفظا فيما بعد الواو، بل هو مقدر، ويقع بعد (إلا) من الملحقات بالمفعول: الحال، نحو: ما جاء زيد إلا راكبا، والتمييز نحو: ما امتلأ الأناء إلا ماءً، ونحو قوله تعالى: ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) ، الواو فيه للحال، لأن صاحب الحال عام، وقيل: الجملة صفة للنكرة، وأتوا بالواو لحصول الفصل بين الموصوف وصفته التي هي جملة بالا، فحصل للصفة، انفصال من الموصوف بوجهين: بكونها جملة ، وبإلا، فجئ بالواو رابطة، ونحو ذلك قولهم في خبر ليس و (ما) : ليس أحد إلا وهو خير منك، وما رجل إلا وأنت خير منه، وكذلك في قولك: ما كان أحد إلا وأنت خير منه، وكذلك المفعول الثاني في باب علمت، نحو: ما وجدت زيدا إلا وهو فاضل)) الى هنا انتهى الحديث عن الاستثناء واستأنف الشارح بموضوع مقارب على ورود (واو الحال) في خبر كان فيقول: (( وربما جاء الواو في خبر كان بغير الا، كقول علي عليه السلام: (قد كنت وما أهدد بالحرب ) تشبيها بالحالية)) انتهى، فهذا القول لا علاقة له بالاستثناء لا من قريب ولا من بعيد ما خلا التشابه في مجيء الجملة الحالية متعلقة بما قبلها (خبر كان) ولا أعلم كيف وجهت الباحثة هذا القول واستشهدت به في باب الاستثناء المفرغ، وأما إعراب الجملة فهو: قد حرف تحقيق، كنت (كان فعل ماضي ناقص مبني على السكون لاتصاله بتاء الفاعل، و( تاء الفاعل) ضمير متصل مبني في محل رفع اسم كان، وحذف الالف للاتقاء الساكنين، الواو: حالية، (ما) نافية غير عاملة، أهدد: فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره أنا، بالحرب: جارو مجرور، والجملة الحالية(وما أهدد بالحرب) في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية(قد كنت وما أهدد بالحرب) جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب.
ومن خلال ما سبق نسترعي انتباه الباحثين للتدقيق في اختيار الأمثلة ووضعها في أماكن الاستشهاد فيها وعدم الخلط بين الموضوعات لتجنب تشتت ذهن القارئ بسبب الاضطراب في الشواهد. وفق الله الباحثين جميعا لخدمة تراث أهل البيت (عليهم السلام) والباحثة التي بذلت جهدا طيبا في خدمة هذا التراث الزاخر.