الشيخ سجاد عبد الحليم الربيعي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى محمد وآله وصحبه المنتجبين، وبعد:
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ( أفضل الزهد إخفاء الزهد)[1]، ويقول: (أوصيكم عباد الله بتقوى الله....تؤل بكم إلى أكنان الدعة، وأوطان السعة، ومعاقل الحرز ومنازل العز)[2].
لاشك أن الزهد والتقوى أحد الخصائص الأساسية في الثقافة العلوية, وكلاهما عند أمير المؤمنين (عليه السلام) أفضل العبادات, وزينة الحكمة, وأساس اليقين. والزهد والتقوى كما يصورهما الامام (عليه السلام) هما إحدى صفات أهل الإيمان, التي توصل الانسان الى طريق السعادة الأبدية، ولقد ركز الامام (عليه السلام) على الزهد والتقوى كأساس في المعاملات الإنسانية والعلاقات الاجتماعية, حتى غدت من السعة والانتشار في نصوص النهج بحيث نشعر بنبضها ونحس بحيويتها في كل تعبير أخلاقي حاول الامام (عليه السلام) بثه في رعيته, وحض ولاته على الأمصار من خلالهما.
فورد مفهوما الزهد التقوى في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في النهج بصيغ منفردة لكل منهما.
فكلمة الزهد المنتشرة في النهج, تعني الاعتدال في الانفاق كيلا تختل إحدى كفتي الميزان لصالح فئة اجتماعية على حساب الفئات الأخرى, وبعبارة أخرى إن الاستمتاع المفرط في مقتنيات الحياة من قبل شريحة من شرائح المجتمع, لابد وأن يكون على حساب شرائح أخرى محرومة من أمس ما تحتاجه, وهو ما عبر عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (ما جاع فقير إلا بما متع غني)[3].
يؤكد (عليه السلام) على أن الفقر والحرمان ليس نابعاً من الطبيعة نفسها ، وإنما هو نتيجة سوء التوزيع والانحراف عن العلاقات الصالحة التي يجب أن تربط الأغنياء بالفقراء, (أي أن التخمة لا يمكن أن تكون إلا على حساب الجوع, فالدنيا التي يصورها الإمام (عليه السلام) ويجب أن يزهد فيها هي دنيا المتخمين من أكل الحرام والمنغمسين في الرذائل والآثام)[4].
فالزهد كما يصوره الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ليس هروبيا بترك الدنيا والتفرغ للعبادة خوفا من الحساب, ولا هو تصوف غاية صفاء النفس بانفصالها عن عالم المادة للوصول إلى رحاب الله من خلال شطحات لا تتناسب وحجم المسؤولية التي أناطها الله بالإنسان في تعمير الأرض, يقول (عليه السلام): (: الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَينِ مِنَ الْقُرْآنِ: قَالَ اللهُ عزّوجلّ: "لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ"، فَمَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي، وَلَمْ يَفْرَحْ بِالاْتِي، فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ)[5]. وقال (عليه السلام) (أيها الناس الزهادة قصر الأمل، والشكر عند النعم والورع عند المحارم)[6].
إلا أن سوء فهم البعض لمسألة الزهد وعدم امتلاكهم فهماً عميقاً وحقيقياً له دفعهم لاعتباره مرادفاً لمفاهيم الكسل، وعدم التنظيم في الحياة، والانزواء، واللامبالاة في خصوص المسائل الاقتصادية والسياسية للمجتمع وبالتالي التهرب من المسؤولية، ما أدى إلى خروج هذا المفهوم من حياة المجتمع. كما أدى إلى لجوء المتعلقين بالدنيا والغافلين عن المذهب الديني الصحيح إلى إيجاد مبرّرات تصحّح سبب إقبالهم على الدنيا فاعتبروا أن التدين هو الزهد، والزهد مفهوم انحرافي فكانوا في غنى عن الدين.
فالزهد والتقوى في فكر الإمام علي(عليه السلام) هو محاولة لربط الإنسان بواقعه بعرى متينة من الايمان الواعي القائم على دعائم روحية ومادية متعادلة ومتمازجة في آن واحد, فقد جعلهما أمير المؤمنين(عليه السلام) علاجا للقلب وللروح والجسد والنفس في حلقة واحدة كما في قوله: (فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم)[7]. ثم يقول (عليه السلام): (لقد رأيت أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) فما أرى أحدا يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا وقد باتوا سجدا وقياما يراوحون بين جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم)[8].
من هنا يتضح لنا السبب الذي أراده الإمام (عليه السلام) من جعل أفضل الزهد إخفاءه. على اعتبار أن عدم التظاهر بالزهد وإخفاءه هو من اللوازم الضرورية لعدم الإقبال على الدنيا. وكل من يتصرف عكس هذا الأمر فإنه يساهم في إخراج هذا المفهوم عن معناه الصحيح، لا بل يكون عمله مخالفاً للزهد ويساعد أصحاب الدنيا الذين لا يفقهون معنى الزهد .لقد عرض الامام (عليه السلام) في خطبه ورسائله ووصاياه وحكمه لجميع القيم الخلقية من الشجاعة, والصدق والامانة, والوفاء والكرم والتواضع والحلم.. الا أنه قد جمع تلك القيم في العدل والحق اللذان يستمدان من أم الأخلاق التقوى والزهد فالزهد مقدمة ووسيلة للتقوى والفلاح والكمال، فلو خالف التقوى فلن يكون زهداً حقيقياً. والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
[1] ـ نهج البلاغة, خطب الإمام علي ( ع ), 4 /7 .
[2] ـ نهج البلاغة, خطب الإمام علي ( ع ), 2 /169 .
[3] ـ نهج البلاغة , صبحي الصالح , 533 ، الحكمة 328 . وفي بعض النسخ : بما منع .
[4] ـ في ظلال نهج البلاغة, محمد جواد مغنيه,2/147 .
[5] - روضة الواعظين, الفتال النيسابوري ,434 .
[6]ـ روضة الواعظين, الفتال النيسابوري ,434 .
[7] ـ نهج البلاغة, خطب الإمام علي ( ع ), 2 / 173 .
[8] ـ نهج البلاغة, خطب الإمام علي ( ع ), 1 /190 .