التأويل التداولي للنص العلوي (يا أشباه الرجال ولا رجال) أنموذجا

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

التأويل التداولي للنص العلوي (يا أشباه الرجال ولا رجال) أنموذجا

9K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 03-06-2019

الباحث: علي عباس فاضل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وبعد:
يعد كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) من أعلى مراتب الكلام فصاحة وبلاغة فهو دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، وكيف لا وهو لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقرآن الناطق، وقد زخر كلامه (عليه السلام) بكثير من العلوم والفنون والأساليب التي جعلته قبلة للدراسات في شتى العلوم، وبالأخص الدراسات اللغوية لما يمثله كلامه (عليه السلام) من ركيزة أساسية يمكن بناء قواعد اللغة عليها، ولم يقتصر على ذلك، فبالرغم من تطور مناهج دراسة اللغة واختلافها، إلا أنه يمكن تطبيقها على كلامه (عليه السلام).
وفي هذه الأسطر سنتناول عبارة قالها (عليه السلام) في إحدى خطبه، وهي عبارة موجزة في ألفاظها غزيرة في مقاصدها، ناظرين إليها على وفق ما أفرزه المنهج التداولي، وهي قوله (عليه السلام) في خطبة له في الجهاد: ((يا أَشْباهَ الرِّجِالِ وَلا رِجَالَ! حُلُومُ الأطْفَالِ, وعُقُولُ رَبَّاتِ الحِجَالِ([1]), لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً, وَاللهِ, جرَّتْ نَدَمًا, وأعْقَبَتْ سَدَمًا))([2]).
في هذا النَّصّ يصف الإمام (عليه السلام) المخاطبين بصورة تعبِّر عمَّا فعلوه معه وأيضًا يعبّر عن حالته، إذ يبدأ النَّصّ بالنداء من خلال قوله: (يا أشباهَ الرجال)، ثم تتوالى العبارات التي يصف بها المخاطبين, وهي صورة دقيقة يصورها الإمام (عليه السلام)، ثم يتحدث عن نفسه ويود أنه لم يرهم ولم يعرفهم وهذا بسبب فعلهم الذي فعلوه مع الإمام (عليه السلام).
وإذا ما نظرنا للنص من جانب تداولي نرى الأفعال الكلامية لهذا النَّصّ هي من التعبيريات التي يكون غرضها الإنجازي التعبير عن الموقف النفسي للمتكلم الذي يمر به([3])، فالمتكلم عبّر عن حالته التي يمر بها في هذه العبارات.
ويظهر الإيجاز في حذف خبر (لا) النافية للجنس في قوله:(ولا رجالَ), وهذا الحذف له دلالات عدة, ومحل التقدير هنا متعدد أي يمكن لنـا أن نضـع الخبر الذي نراه مناسبًا، فالجملة تسمح لنا بذلك, وهذا ما يمكن أن نسميـه بـ(الجملة المفتوحة البنية والدلالة) وهي الجملة القابلة لتأويل ما هو محذوف منها على وفق ما يراه المخاطب مناسبًا لسياقها، فالمخاطب يستطيع أن يتعدد في الاختيار لتقدير ما هو محذوف, إذ سمحت هذه الجملة في تعدد دلالاتها على وفق ما يقدر لها المخاطب، ويكون قصد المتكلم في هكذا جمل الاكثار في الدلالات التي تحملها, وبهذا تكون كمية المعلومات التي تحملها هذه الجملة في تزايد مستمر بحسب ما يفهمه المخاطب وما يؤوله لها، فكل تأويل يؤدي بها إلى دلالة جديدة؛ لكن كل هذه التأويلات والدلالات هي متقاربة على الرغم من الاختلاف الموجود بينها لأنّها محكومة بسياق الجملة الذي يحدد لها التأويل والخروج عن دلالتها التي قصدها المتكلم أو ما يقاربها، فهو يسمح بتغيُّر تلك الدلالة للوصول إلى الهدف المقصود من كلام المتكلم وفهم المخاطب لها، ويؤدي تنوع المخاطب هنا إلى تنوع التأويل ومن ثَمَّ إلى تنوع الدلالات، لكنها كما ذكرنا متقاربة كون الاختلاف فيها هو من جهة اختلاف المخاطب وفهمه لها.
ويمثل هذا التنوع في التأويل والدلالات خرقًا لقواعد مبدأ التعاون التي وضعها غرايس، لتحكم الكلام وتضبطه، فما وافقها فهو كلام طبيعي لا يتصف بالكلام الفني، وإنما الكلام الفني والبليغ هو ما يخرق واحدة من هذه القواعد أو أكثر وعندئذٍ ينتج (الاستلزام الحواري)([4])، وهذه الجملة قد خرقت أكثر من قاعدة ومنها قاعدة الكم، إذ إن كمية المعلومات التي تحملها في تزايد, وبهذا خرق المتكلم القاعدة، جعل المخاطب يستطيع تأويل ما هو محذوف والتأمل في استخلاص المعاني التي يريدها المتكلم بحسب فهم المخاطب لقصد المتكلم وعلى وفق ما يراه هو مناسبًا له، وهذا هو مبدأ التعاون الذي سهَّل للمتكلم والمخاطب طريقة الحوار وفتح مجال الحرية لهما في فهم المقاصد، لذا فكل ما أوّل المخاطب لهذا الحذف تأويلًا اختلف المقصد بعض الشيء.
      ويتضح الخرق الثاني في هذه الجملة وهو خرق لقاعدة الكيف ففي قوله (عليه السلام): يا أَشْباهَ الرِّجِالِ وَلا رِجَالَ!, نرى أنّ الإمام (عليه السلام) نفى أن يكون هناك رجال أمامه عندما كان يخطب. ومن خلال ظاهر الملفوظات أنّه (عليه السلام) يخطب بمجموعة من الأشخاص أجسامهم أجسام رجال, وصورهم على هيأة رجال, ورجال جمع رجل و (( الرَّجُل: معروف الذكرُ من نوع الإِنسان خلاف المرأَة، وقيل: إِنما يكون رَجلًا فوق الغلام، وذلك إذا احتلم وشَبَّ، وقيل: هو رَجُل ساعة تَلِدُه أُمُّه إِلى ما بعد ذلك، وتصغيره رُجَيْل... والجمع رِجال))([5]).
وعند النظر إلى سياق الخطبة والمناسبة التي قيلت فيها, والإمام (عليه السلام) في هذا الموضع جرّدهم من صفاتهم التي تُثبتُ أنّهم رجالٌ, فظاهر القصد من وراء هذه الملفوظات أنّهم ليسوا برجال, أمّا القصد الضمنيُّ فيدلُّ على أنّهم لا يحملون أيَّ صفةٍ من صفات الرجال, وبذا حين نفى عنهم صفة الرجال نفاها بصيغتها المعنوية وليست المادية, فهم من حيث التكوين المادي رجالٌ, إلّا أنّهم من الجانب المعنوي لا يتمتعون بايِّ صفة من صفات الرجال, فقوله (يا أشباه الرجال) أي أنقص منهم بعض الصفات, ثمَّ بعد ذلك قال (ولا رجالَ) لينفي ما تبقى من هذه الصفات بشكل قطعي, ويسرد القول بعدها بما يثبت صحة قوله, وذلك قوله: (حُلُومُ الأطْفَالِ, وعُقُولُ رَبَّاتِ الحِجَالِ) وبذا ذكر الدليل على قوله ليثبت صحة ما ذكره بحقهم, فبَيَّنَ لنا من خلاله أنّه (عليه السلام) لجأ إلى التهكم والسخرية منهم لما رآه منهم؛ فقد كانت صفاتهم كلها تدل على أنّهم ليسوا رجالًا, وأنّه سخر منهم ليزيد مقصدًا آخر لهذه الملفوظات تتلاءم مع سياق الحال الذي وردت فيه, إذ تذكر الروايات أنّ الإمام علي (عليه السلام) بلغَه أن خيلًا لمعاوية وردتْ الأنبار فقتلوا عاملًا له, يقال له: حسان بن حسان البكري, فخرج (عليه السلام) مغضبًا يجرُّ ثوبه حتى أتى النحيلة, وأتبعه الناس, فرقى على رباوة من الأرض, فحمد الله و أثنى عليه, وصلى على نبيه (صلى الله عليه و آله) ثم خطب هذه الخطبة([6]).
ويتجلى الخرق هنا في أنّ الإمام (عليه السلام) جعل لهذه الملفوظات قصدين الأول: وهو الظاهر ويعني نفي الرجولة عنهم, وإنّهم لا يتمتعون بأيِّ صفة من صفاتها, والثاني: هو نفي هذه الصفات من جانب معنوي لا مادي, فخروجه عن القاعدة كان ليدل على أنّ هذه الصفات المعنوية هي التي نفاها عنهم وليست الصفات المادية ولكنّه في القول شمل الطرفين ظاهرًا, فخرق القاعدة بملازمة صحة القول في الصدق والدليل وسرد الدليل بعد ذلك ليتضح  أنّ الخرقَ جاء في موضعه.
وللسياق في هذا الموضع دوره الكبير في إيضاح مقاصد الإمام (عليه السلام)؛ فمن خلال السياق تبين لنا مقصده الخفي المراد من القول.

الهوامش:
(1) الحجال: جمع حَجَلة وهي القبة، وموضع يزين بالستور، وربات الحجال النساء، السَّدم: محركة تعني الهم مع أسف وغيظ، وفعله كفرح. ينظر: لسان العرب, (حجل): 1/787-788، ينظر: نهج البلاغة: شرح صبحي الصالح: 63. والقيح: تعني ما في القرحة من الصديد وفعله كباع . ينظر: لسان العرب,(حيل): 5/3791, ينظر: نهج البلاغة : شرح صبحي الصالح: 63.
(2) نهج البلاغة، تحقيق: قيس بهجت العطّار: 120.
(3) ينظر: آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: 50.
(4) توصَّل (غرايس) إلى نظرية (الاستلزام الحواري أو التخاطبي) في مجموعة مقالات له بعنوان (المنطق والحوار). ينظر: آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: 3، وهذه النظرية تعدُّ من أهمَّ عناصرِ (التداولية)؛ فقد قدَّمَ بها تفسيرًا للخلاف بين (الدلالة الحرفية) للخطاب، والمعنى الذي يتم إبلاغه للمتلقي. ينظر: التداوليات علم استعمال اللغة: 293، وقد وضع غرايس لظاهرة الاستلزام الحواري مبدأ (التعاون). ينظر: الاستلزام الحواري في التداول اللساني : 99، ويقوم هذا المبدأ على التعاون بين المتكلم، والمخاطب في بيان دلالة الخطاب، وصيغة هذا المبدأ هي: ((اجعل مساهمتك في المحادثة بحسب ما تتطلبه الحال في أثناء المحادثة برعايةِ الغرض المطلوب، أو اتجاه تبادل الكلام الذي تشارك فيه)). النص والخطاب والإجراء: 495.
(5) لسان العرب, (رجل) : 3/ 1596.
(6) ينظر: مصادر نهج البلاغة وأسانيده, السيد عبد الزهرة الحسيني الخطيب: 1/ 397.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2220 Seconds