الباحث: علي عباس فاضل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد:
لم تكن حياة السلف الصالح حياة ترف ونعيم، بل كانوا مجاهدين صابرين تظهر على وجهوهم علامات الإيمان والتقوى، فبذلوا كل ما في وسعهم لإعلاء كلمة الحق والدعوة إلى الدين الإسلامي، وثبتوا على مواقفهم، حتى أتاهم اليقين، وقد تعمد أرباب السير والتاريخ إلى محاولة طمس معالمهم عبر تجاهلهم وعدم ذكر مناقبهم ومن هؤلاء العكبر بن جدير الأسدي.
(العَكْبَرُ بنُ جَدِير بطل مقدام ومقاتل لا يكلّ. وكان له لسان بليغ وبيان يأخذ بالقلوب. اشترك في صفّين ، واستبسل حتى أهدر معاوية دمه غيظاً. وكان ينظم الشعر أيضاً، ونلحظ في شعره الفيّاض إعلاءً لملحمة الحقّ، وإخزاءً لحزب الطلقاء)[1]، شاعر كوفي، وكان فارساً شجاعاً، صلب الإيمان، صحب ووالى الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، واشترك معه في وقعتي الجمل وصفين ، وفي يوم الجمل كان على رجَّالة بني أسد[2].
ذكر نصر في كتاب صفين: كان فارس أهل الكوفة الذي لا ينازع رجل كان يقال له العكبر ابن جدير الأسدي، وكان فارس أهل الشام الذي لا ينازع عوف بن مجزأة الكوفي المرادي المكنى أبا أحمر، وكان العكبر له عبادة ولسان لا يطاق، فقام إلى علي عليه السلام فقال: " يا أمير المؤمنين، إن في أيدينا عهدا من الله لا نحتاج فيه إلى الناس، وقد ظننا بأهل الشام الصبر وظنوه بنا فصبرنا وصبروا. وقد عجبت من صبر أهل الدنيا لأهل الآخرة، وصبر أهل الحق على أهل الباطل، ورغبة أهل الدنيا، ثم نظرت فإذا أعجب ما يعجبني جهلي بآية من كتاب الله: (ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[3]. وأثنى عليه علي خيرا، وقال خيرا.
وخرج الناس إلى مصافهم وخرج عوف بن مجزأة المرادي نادرا من الناس، وكذلك كان يصنع. وقد كان قتل قبل ذلك نفرامن أهل العراق مبارزة، فنادى: يا أهل العراق، هل من رجل عصاه سيفه يبارزني، ولا أغركم من نفسي، فأنا فارس زوف[4]. فصاح الناس بالعكبر، فخرج إليه منقطعا من أصحابه والناس وقوف، ووقف المرادي وهو يقول:
بالشام أمن ليس فيه خوف
بالشام عدل ليس فيه حيف
بالشام جود ليس فيه سوف
أنا المرادي ورهطي زوف
أنا ابن مجزاة واسمي عوف
هل من عراقي عصاه سيف
يبرز لي وكيف لي وكيف
فبرز إليه العكبر وهو يقول:
الشام محل والعراق تمطر
بها الإمام والإمام معذر
والشام فيها للإمام معور
أنا العراقي واسمي العكبر
ابن جدير وأبوه المنذر
أدن فإني للكمي مصحر
فأطَّعنا فصرعه العكبر فقتله، ومعاوية على التل في أناس من قريش ونفر من الناس قليل ، فوجه العكبر فرسه فملأ فروجه ركضا يضربه بالسوط، مسرعا نحو التل، فنظر إليه معاوية فقال: إن هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن، فاسألوه. فأتاه رجل وهو في حمى فرسه فناداه فلم يجبه، فمضى مبادرا حتى انتهى إلى معاوية وجعل يطعن في أعراض الخيل، ورجا العكبر أن يفردوا له معاوية، فقتل رجالا ، وقام القوم دون معاوية بالسيوف والرماح، فلما لم يصل إلى معاوية نادى: أولى لك يا ابن هند، أنا الغلام الأسدي. فرجع إلى علي عليه السلام، فقال له: ماذا دعاك إلى ما صنعت يا عكبر؟ لا تلق نفسك إلى التهلكة قال: أردت غرة ابن هند.
وكان شاعرا فقال:
قتلت المرادي الذي جاء باغيا * ينادي وقد ثار العجاج: نزال
يقول أنا عوف بن مجزاة، والمنى * لقاء ابن مجزاة بيوم قتال
فقلت له لما علا القوم صوته * منيت بمشبوح الذراع طوال
فأوجرته في معظم النقع صعدة * ملأت بها رعبا قلوب رجال
فغادرته يكبو صريعا لوجهه * ينادي مرارا في مكر مجال
فقدمت مهري آخذا حد جريه * فأضربه في حومة بشمالي
أريد به التل الذي فوق رأسه * معاوية الجاني لكل خبال
يقول ومهري يغرف الجري جامحا * بفارسه قد بان كل ضلال
فلما رأوني أصدق الطعن فيهم * جلا عنهم رجم الغيوب فعالي
فقام رجال دونه بسيوفهم * وقال رجال دونه بعوالي
فلو نلته نلت التي ليس بعدها * من الأمر شيء غير قيل وقال
ولو مت في نيل المنى ألف ميتة * لقلت إذا ما مت لست أبالي
وانكسر أهل الشام لقتل عوف المرادي، وهدر معاوية دم العكبر، فقال العكبر: يد الله فوق يد معاوية، فأين دفاع الله عن المؤمنين[5].
فهذه الشخصية الفذة التي تفيض بالولاء لأمير المؤمنين عليه السلام، وبالعداء لأعدائه، تمثل أنموذجا من الموالين لأمير المؤمنين عليه السلام المدافعين عن الدين الإسلامي، إذ تراه قد قتل أحد أبطال الشام، ومن ثم توجه إلى معاوية وقاتل كل من كان حوله حتى كاد أن يصله ليقتله ويقضي على فتنته، لكن حال الناس دون ذلك.
وفي الختام نسأل العلي القدير أن يجمعنا مع أوليائه الصالحين في دار البقاء أنه سميع الدعاء.
الهوامش:
[1]- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب ( ع ) في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري: 12/ 219- 220.
[2]- ينظر: أعيان الشيعة: 8/148 ، الجمل للشيخ المفيد : 321، قبيلة بنو أسد بن خزيمة، الشيخ علي الكوراني: 5/ 47.
[3]- سورة العنكبوت: 1- 3.
[4] زوف، بفتح الزاي: أبو قبيلة، وهو زوف بن زاهر - أو أزهر - بن عامر بن عويثان. ينظر القاموس (زوف). 817، تاج العروس: 23/ 405.
[5] - ينظر: وقعة صفين: 450- 452، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 8/ 52- 53، الفتوح: