عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
لطالما أوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأهل بيته، وكان دائم التذكير للأمَّة بذلك حتَّى جعلهم عدل القرآن بوصيته المعروفة والمتفق عليها: ((إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ)، وَعِتْرَتِي، كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي: أَهْلُ بَيْتِي، وَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ أَخْبَرَنِي أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا بِمَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا))([1])، وما أن يرحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن عالم الدُّنيا حتَّى تتآمر الأمَّة على وصيِّه فيدفعونه عن مكانه، ثمَّ تتوالى المصائب فتظلم الزهراء (عليه السلام) ويسلب حقها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلى أن تُقتل مظلومة مقهورة، وهكذا إلى مقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) مظلومًا من هذه الأمَّة، وتتوالى الظلامات فيقتل الإمام الحسن (عليه السلام) في مصيبةٍ اهتزَّ لها عرش الرحمن، وبعدها تلوح أكبر مصيبةٍ جرت على آل الرسول محمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في مجزرةٍ ارتكبها بنو أميَّة طالت الحسين وأهل بيته (عليهم السلام)، في تفاصيل مروَّعة تضمَّنت قطع الرؤوس وتقطيع الأشلاء وقتل النساء والأطفال، ثمَّ سبي بنات العترة الطاهرة بعد قتل رجالهن في أبشع صورة إلى الشام مركز الخليفة الملعون، وكل ذلك جرى في محرَّمٍ الحرام من عام إحدى وستين من الهجرة النبوية، وكل ذلك جرى على أهل بيت النبوة وكأنَّ الرسول لم يوصِ بهم، وأنَّه أوصى بقتلهم وتشريدهم لما زادت أمَّة الإسلام فيما رمتهم به .
وها نحن مقبلون على شهر محرَّمٍ الحرام الذي جرت فيه أحداث مصرع الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) في أبشع جريمةٍ عرفتها الإنسانية، نتساءلُ عمَّا ينبغي علينا فعله في هذا الشهر الحزين لكي نكون مرضيين عند أئمَّتنا (عليهم السلام)، وفي الجواب على ذلك نستذكر حال أئمَّتنا عندما يمرُّ بهم هذا الشهر لنتَّخذ من أفعالهم قدوةً لنا في متابعتهم ومشايعتهم، وممَّا ورد عنهم بهذا الصدد ما نُقِل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه ((كان إذا هل هلال عاشوراء اشتدَّ حزنه، وعظم بكاؤه على مصاب جدَّه الحسين (عليه السلام)، والناس يأتون إليه من كلِّ جانب ومكان يعزونه بالحسين (عليه السلام (ويبكون وينوحون معه على مصاب الحسين (عليه السلام) ثم يقول: اعلموا أنَّ الحسين (عليه السلام (حي عند ربِّه يرزق من حيث يشاء، وهو دائمًا ينظر إلى معسكره ومصرعه، ومن حل فيه من الشهداء، وينظر إلى زواره والباكين عليه، والمقيمين العزاء عليه، وهو أعرف بهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وبدرجاتهم ومنازلهم في الجنة))([2])، وكان الإمام الكاظم (عليه السلام): ((إذا دخل شهر المحرم لم يُرَ ضاحكًا، وكانت كآبته تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هذا اليوم الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام()([3]) .
ومن هنا يجب على المؤمنين أن يُعظِّموا حرمة هذا الشهر كما كان الأئمَّةِ (عليهم السلام)، وأن يلتزموا الوقار والسكينة وأن يُظهروا الحزن لمصاب سيِّد الشهداء (عليه السلام)، وأن يُشدِّدوا على إقامة مجالس العزاء يستذكرون بها ما حصل لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام) بدموعٍ باكيةٍ وحُزنٍ ظاهر، وأن يبتعدوا في هذه الأيَّام عن مجالس اللهو والمزاح؛ ليكونوا من المعزِّين لرسول الله وأهل بيته (عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام) .
ويجب أن نعرفَ جيِّدًا بأن الحزن على سيِّد الشهداء من شعائر الله تعالى ومن خير العبادات، وقد أعدَّ الله تعالى لمن يمتثل يبكي على الحسين (عليه السلام) ويحزن على مصابه أجرًا عظيمًا؛ ولذلك يوصي أهل البيت (عليهم السلام) شيعتهم بلزوم استذكار مصاب الحسين (عليه السلام) وما جرى عليه في كربلاء في هذا الشهر، وهذا المعنى نجده في وصايا الإمام الرِّضا (عليه السلام) لابن شبيب عندما دخل عليه في أوَّل محرَّم وكان ممَّا قال له: ((يا بن شبيب، إنَّ المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرمون فيه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها ولا حرمة نبيها (صلى الله عليه وآله)، لقد قتلوا في هذا الشهر ذريته، وسبوا نساءه، وانتهبوا ثقله، فلا غفر الله لهم ذلك أبدًا . يا بن شبيب، إن كنت باكيًا لشيء، فابكِ للحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإنَّه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلًا ما لهم في الأرض شبيه، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره فوجدوه قد قتل، فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم، فيكونون من أنصاره، وشعارهم: يا لثارات الحسين، يا بن شبيب، لقد حدثني أبي عن أبيه، عن جده (عليه السلام): أنه لما قتل جدي الحسين (صلوات الله عليه)، مطرت السماء دمًا وترابًا أحمر . يا بن شبيب، إن بكيت على الحسين (عليه السلام) حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته، صغيرًا كان أو كبيرًا، قليلًا كان أو كثيرًا . يا بن شبيب، إن سرك أن تلقى الله (عزَّ وجل) ولا ذنب عليك، فزر الحسين (عليه السلام) يا بن شبيب، إن سرك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي وآله (صلوات الله عليهم)، فالعن قتلة الحسين، يا بن شبيب، إن سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين (عليه السلام) فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا .يا بن شبيب، إن سرك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان، فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو أنَّ رجلًا تولَّى حجرًا لحشره الله معه يوم القيامة))([4]) .
فالإمام الرِّضا (عليه السلام) يقدِّم لنا برنامجًا عباديًّا في شهر محرَّم، وكذلك يُقدِّم الأجر إزاء كلِّ عبادة، وقد تنوَّعت العبادات ما بين الحزن والبكاء على الحسين (عليه السلام) إلى لعن أعدائه وقاتليه، ثمَّ تمني الكون معهم، وكلُّ ذلك يرسِّخ في النفس الاتِّصال الدِّيني والعبادي، إذ من المعروف أنَّ في الدُّنيا ملهياتٍ كثيرة، ومشاغل الإنسان لا تقف عند حدٍّ؛ ولذلك كانت هناك بعض المحطَّات التي يستعيد فيها الإنسان تنشيط اتِّصاله مع الله تعالى، ومن تلك المحطَّات شهر محرَّم، فإنَّه من خيرِ المحطَّات التي يتزود بها المؤمن من الطاقاتِ العباديَّة التي تجعله في ارتباطٍ دائم مع الله تعالى، لكونه مرتبط بالحسين (عليه السلام) ذلك الإنسان الذي ضحَّى بكلِّ شيء في سبيل العقيدة والدِّين، وفي حال استذكار العبد لمصيبة الحسين (عليه السلام) فإنَّه ستنسحب إليه تلك الروح الثوريَّة ضدَّ الباطل بحسب طاقته واستعداده، وستهون عنده ملذات الدُّنيا فيشمخ بنفسه نحو التكامل الذي خطَّه الحسين (عليه السلام) ليكون حرًّا لا طوق في عنقه سوى طوق العبوديَّة لله تعالى . جعلنا الله تعالى وإيَّاكم من خير المعزِّين لمحمَّد وآله في الحسين وأهله (صلوات الله عليهم) .
الهوامش:
([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: 17/212 – 213 .
([2]) مستدرك سفينة البحار: 7/212 .
([3]) مفاتيح الجنان: 444 .
([4]) الأمالي، الشيخ الصدوق: 192 – 193 .