خُطَى الخُزَاعي
ما قبل ذكرى الوصول وعلى هامش اللحظات التي تتصرم وهي تستقبل رنات أجراس جياد الموكب الشريف مع رفيف رايته وهي تتجه صوب كربلاء، حيث محط رحال سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) مع أهل بيته وأصحابه.
وتحديدًا عند هذه الفاصلة من كل عام، يستنفر الموالون طاقاتهم وإمكاناتهم في التخطيط لكيفية استقبال الذكرى والتعاطي معها بالشكل اللائق المتناسب وأهميتها العظيمة بأكبر قدر يتاح، ترجمة لما يشعر به أهل الولاء من عرفان وامتنان للجهد الحسيني في الإبقاء على الدين وحفظه وإيصاله إلى الأجيال خلفًا عن سلف، وعليه أصبح الاستعداد لاستقبال الذكرى بالتخطيط للشعائر وتنظيمها بعنواناتها المتعددة ثقافة تترسخ وتتأكد مع كل عام في المجتمع المؤمن على اختلاف قومياته وانتماءاته الثانوية.
ولأنَّ نهج الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) يتعارض مع المناهج الدنيوية المنحرفة ذات التعدد في الانتماء والأهداف، المنطلقة من حدود الدائرة المنتمية للمجتمع المؤمن في الظاهر مرورًا بالدوائر البعيدة فالأبعد، التي بدورها أيضًا تدخل في حالة استنفار تام فيما قبل هذا الشهر العظيم؛ ولكن من منطلق الدسيسة والتخريب، تلتقي جميعها على محاربة القضية الحسينية المقدسة، ومحاولة القضاء على روحية التفاعل معها من لدن المؤمنين والتثبيط من عزائمهم بأساليب متجددة تكشف تارة عن عداء صريح وأخرى عن عداء مبطن، تحت ذرائع واهية لا تخفي المقاصد كحياكة التشكيكات وصناعة الشبهات وإلقائها في أوساط المؤمنين عسى أن تنال من حماستهم وتثنيهم عن مواصلة إحياء ذكرى الحسين، مثلًا من قبيل اقتراح بدائل أكثر جدوى ونفعًا على المجتمع وخصوصًا على الفقراء من ممارسة الشعائر واهدار المال فيها وهكذا.
وكما هو معلوم ومصدَّق عرفًا وشرعًا أهمية العلم المرافق للعمل، ورجحان كفة العمل المتفقه فيه على العمل بلا تفقه في ميزان العقلاء فضلًا عن المتشرعة، وممَّا رويَّ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معرض حديث له عن أهمية العقل إذ قال: ((وما أدَّى العبد فرائض الله تعالى حتى عقل عنه، ولا يبلغ جميع العابدين في عباداتهم ما يبلغه العاقل، والعقلاء هم أولوا الألباب، الذين قال الله تعالى عنهم: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ})([1])، فإذا كان استعمال العقل والتفقه في العمل مطلوب في نفسه في إطار الظرف الطبيعي، فكيف إذا حُفَّ العمل بظرف من الصراع والمحاربة الفكرية؟!، فحتمًا سيكون التفقه مطلوب بشدة وعناية أكثر قياسًا مع عدم وجودها، فمن جهة سيرجح ثقل تلك الشعيرة المتفقه فيها في ميزان الحسنات؛ لأنَّ أدائها كان عن معرفة وإيمان، ولأنَّها مُتفَقَه فيها ستكون أكثر اتقانًا وجودة ممَّا تسهم في هيكلة إعلام رصين يثقِّف للقضية الحسينية ويقدمها للشعوب المختلفة بهيئة ممارسة رصينة معرِّفًا بأهميتها، وهذا الأمر تحقق ميدانيًا بشكل ملحوظ وخصوصًا في السنوات الأخيرة، ومن جهة أخرى سيساهم التفقه في الشعائر بتحصين الموالين من هجمات التيار المعاكس فتتحطم شبهاتهم وأضاليلهم على جدار التفقه المتين، فيثبت ذو الولاء على ماهو عليه وبأفضل مستوى من الجانب العملي؛ بل ويتقدَّم أكثر في هذا المجال إذ تصبح عنده ملكة مواجهة الشبهات وتفنيدها وكشف القناع عمَّن يتبناها على مستوى الجانب الدفاعي التثقيفي، وقد رتَّب أئمة العترة الطاهرة شيعتهم الموالين برتبة المتعلمين المفعِّلين للعلم تحصيلًا للنجاة، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في ذلك: ((يَا كُمَيْل بْن زِيَاد، إِنَّ هذهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاة، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِق، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيح، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْن وَثِيق))([2])، ثم يعرِّف الإمام الصادق (صلوا الله وسلامه عليه) هذه الفئات بعنواناتها فيقول: ((يغدوا الناس على ثلاثة صنوف عالم ومتعلم وغثاء، فنحن العلماء وشيعتنا المتعلمون وسائر الناس غثاء))([3])، فيكون من خصائص الشيعة التعلم عن أئمتهم، ولا قيمة للعلم إذا لم يفعَّل في التطبيق، ومن مصاديق هذا التطبيق للموالي أداء الشعائر عن علم وتفقه.
يضاف إلى ما تقدَّم من كلام أنَّ شعائر الإمام الحسين محفوظة بحفظ إلهي وعدًا على لسان عقيلة آل محمد، إذ قالت مخاطبة الإمام زين العابدين (صلوات الله وسلامه عليه) عند رؤيته جثمان أبيه وجثث أهل بيته وأصحابه مطروحة بالعراء بلا دفن: ((مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأخوتي، فو الله إنَّ هذا لَعهدٌ من الله إلى جدّك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق اُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة فيوارونها، وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشّهداء، لا يدرس أثره، ولا يمحى رسمه على كرور اللّيالي والأيّام، وليجهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلاّ علواً))([4])، معطيةً (صلوات الله عليها) ضمانة بعدم موت القضية الحسينية وديمومتها؛ بل تصاعد أثرها مع مرور الزمن، وبالتالي مهما اجتهد أئمة الكفر وأشياع الضلال، والهمج الرعاع الناعقون مع كل ناعق، وغثاء الناس على محاربة ذكرى الحسين أو التوهين من شعائره المقدسة لن يفلحوا قبالة هذا الوعد الزينبي، ويقينًا أنَّها ستبارك وجميع آل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) كل من يسير باتجاه الإحياء المبارك لأبي عبد الله الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، بكاءً على حبِّه، ارتقاء منبر على حبِّه، اطعام طعامٍ على حبِّه، تفنيد أباطيل المشككين على حبِّه،... ويقينًا آخرَ أنَّهم سيباركون بمستوى أكبر كل من يؤدي الشعيرة متفقهًا على حبِّه.
الهوامش:
[1])) المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي (ت: 274): 1/ 193-194.
[2])) شرح نهج البلاغة: تحقيق فارس الحسون: 710.
[3])) بصائر الدرجات: محمد بن الحسن بن فروخ الصفار(ت: 290): 28.
[4])) الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد، الشيخ محمد السند :373-374.