علي فاضل الخزاعي
الحمد لله فارج الكروب وساتر العيوب وغافر الذنوب وهادي القلوب وعلام الغيوب، والصلاة والسلام على نبيه وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد..
هنالك قضية اجتماعية مهمه وخطرة سلط الضوء عليها الإمام علي (عليه السلام)، ألا وهي فضح الناس وإظهار عيوبهم أمام الآخرين وما تشير إليه بعض الروايات بأنها من الذنوب الَّتي تهتك العصم، مع الأخذ بأن الذنوب بصورة عامة على اختلاف أشكالها وألوانها هي ذنوب مدمرة بل ربما تؤدي إلى العداوة والبغضاء بين الناس، وتؤدي إلى تلف النفوس والأعراض، مع الأخذ بعين الاعتبار نوع الذنب عن غفلة أو بعمد، ومن يتجرأ على فضح الناس وكشف عوراتهم ويأمن على نفسه بأنه لن تضره الفضيحة بعد هذه الفعلة الشنيعة التي اقترفها فإن الله (عز وجل) يضيف له إلى فضيحة الدنيا وخزيها خزي الآخرة الذي لا يبيد ولا ينفد.
فهتك الإنسان للأخرين وفضحهم وكشف أسرارهم وعدم الخوف من الله يجعله يفقد الحس والتفكير اتجاه أخيه الإنسان، فهو يظن بأنه لا يوجد من يتجرأ عليه ويفعل بأهل بيته كما يفعل هو مع الآخرين، ولهذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((مَنْ كَشَفَ حِجابَ أخيهِ اِنْكَشَفَتْ عَوْراتُ بَيْتِهِ))[1].
والحفاظ على أسرار الآخرين وحرمة الاطّلاع عليها، هو أصل دلّت عليه الروايات والنصوص المتواردة القاطعة في النهي، والتحريم والتحذير؛ لأن الذين يحاولون فضح الأعراض لا يعلمون أن الله سيفضح أعراضهم؛ فعن الإمام الباقر عليه السلام: (كان فيما أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران ( عليه السلام ) : يا موسى بن عمران من زنى زُني به ولو في العقب من بعده، يا موسى بن عمران عفّ تعفّ أهلك، يا موسى بن عمران إن أردتَ أن يكثر خير أهل بيتك فإيّاك والزنا، يا موسى بن عمران كما تدين تدان)[2].
وقد حرم الدين الإسلامي الزنا تحريمًا قاطعًا وشدد في عقوبته التي منها الرجم وهو القتل رميًا بالحجارة حتى الموت، و الغرض حماية الأعراض من القذف، وجعله كبيرة من كبائر الإثم والفواحش، وأوجب على القاذف ثمانين جلدة، رجلاً كان أو امرأة، كما منع من قبول شهادته، وحكم عليه بالفسق واللعن والطرد من رحمة الله واستحقاق العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: ((وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[3].
فهكذا تكون عاقبة من يكون همّه التحدّث عن مساوئ المسلمين والبحث عن عيوبهم ونشرها وإذاعتها؛ فإذا كان الشخص المذنب والعاصي يمارس معصيته بعيداً عن أعين الناس، أو من دون إرادة التجاهر بالفسق والمعصية فهذا الشخص لم تحن ساعة فضحه، أما من يمارس المعصية عياناً أمام الناس فقد فضح نفسه بنفسه وحينئذٍ فلا حرمة له، لأن أحداً لم يهتك ستره، إنما هو الذي هتك ستر نفسه.
ولهذا نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) في حكمه يحذر كل من يفعل هذا الذنب بأنه سيرد له بالمثل ولو بعد حين: يقول (عليه السلام): (ذوو العيوب يحبون إشاعة معايب الناس ليتسع لهم العذر في معايبهم)[4]، وغيره من يظهر معايب غيره ولا ينتبه الى نفسه من عيوب يقترفها أعظم من عيوب غيره يقول (عليه السلام): (اشتغالك بمعائب نفسك يكفيك العار، وقال : الكيّس من كان غافلا عن غيره ولنفسه كثير التقاضي، وقال : أفضل الناس من شغلته معائبه عن عيوب الناس، وقال : أكبر العيب أن تعيب غيرك بما هو فيك، وقال : شرّ الناس من كان متتبّعاً لعيوب الناس عمياً عن معائبه، وقال : عجبت لمن ينكر عيوب الناس ونفسه أكثر شيء معاباً ولا يبصرها، وقال : عجبت لمن يتصدّى لصلاح الناس ونفسه أشدّ شيء فساداً فلا يصلحها ويتعاطى اصلاح غيره، وقال : كفى بالمرء شغلا بمعائبه عن معائب الناس، وقال : كفى بالمرء غباوة أن ينظر من عيوب الناس ما خفي عليه من عيوبه، وقال : كفى بالمرء جهلا أن يجهل عيوب نفسه ويطعن على الناس بما لا يستطيع التحوّل عنه، وقال : لينهك عن ذكر معائب الناس ما تعرف من معائبك، وقال : ليكفّ من علم منكم عن عيب غيره ما يعرف من عيب نفسه، وقال : من أبصر عيب نفسه لم يعب أحداً، وقال : من بحث عن عيوب الناس فليبدأ بنفسه، وقال : من أنكر عيوب الناس ورضيها لنفسه فذاك الأحمق، وقال : لا تتبعنّ عيوب الناس فإنّ لك من عيوبك إن عقلت ما يشغلك أن تعيب أحداً)[5].
فهتك الحجاب وكشف عورات الناس وفضحهم كما هو مبين من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) يدل على التعدي والتمزيق، فالحجاب يدل على الستر، الذي يضعه الإنسان حماية لحياته وشرفه وأمانًا له. ولهذا فإن وصايا الإمام (عليه السلام) لأغلب أصحابه كانت تدل على حفظ أعراض الناس وعدم فضحهم ونرى في نهج البلاغة في كتابه (عليه السلام) لمالك: (وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس، فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك)[6].
فكان الهدف منها إيجاد مجتمع متكامل وسليم، فلا يوجد أي نقاش على أن كل أنسان يحب نفسه، ويحب الخير لها، ويحب احترام خصوصيته، ولا يسمح لأي أحد أن يتجاوزها أو يعتدي عليها بأي حال من الأحوال.
فهذه الكلمات الزاهرة لأمير المؤمنين وأهل بيته (عليهم السلام) توضح صورة نوع من البشر وترسمها، وهم الذين يزنون الأمور بميزانيّن, فيبيح لنفسه كل الأمور, ويحظر على الآخرين كل المباحات، يبيح لنفسه هتك ستر الغير, بينما نراه يتشدد وربما يقاتل من يفكر في انتهاك ستره, فمثل هكذا شخص لا يرعى حرمة غيره أو يحميه لعدم اتصافه بأي شيء من الإنسانية مع الآخرين, قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنّ من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته، ومن يتّبع الله عورته يفضحه في بيته)[7].
ولهذا كان هدف الدين الإسلامي منذ أول تكوينه حماية أعراض الناس والمحافظة على سمعتهم وصيانة كرامتهم، وقد وضع قوانين يقطع بها ألسنة السوء، ويسدّ الباب على الذين يلتمسون للأبرياء العيوب ويقذفونهم بها، فمنع ضعاف النفوس من أن يجرحوا مشاعر الناس ويَلغوا في أعراضهم، وحظر أشدّ الحظر من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، حتى تتطهر الحياة من سريان هذا الشر فيها، وشدد الوعيد والتهديد في ذلك.
فلنتق الله بالبعد عن محارم الله عز وجل، فإنه تبارك وتعالى يرانا حيث كنا وأينما نكون، وهو جل وعلا يعلم السر وأخفى، وبه المستعان. والحمد لله رب العالمين...
الهوامش:
[1] - غرر الحكم ودرر الكلم:341.
[2] - تحرير الأحكام، العلامة الحلي:5/327.
[3] - سورة النور: الآيتان 4-5.
[4] - ميزان الحكمة، الريشهري: 3/2330.
[5] - مسند الإمام علي (ع)، السيد حسن القبانجي: 4/382.
[6] - نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 426.
- [7] نظام الحكم في الإسلام, الشيخ المنتظري, ص358.