الزرقاء بنت عدي... زهرة من رياض الولاء
خُطَى الخُزَاعي
من رياض ما فتئت أزاهيرها عابقة بأريج الولاء العاطر، نمضي صوب زهرة همدانية البذرة كوفية المنبت، علوية الارتواء، دونَّ لها التاريخ موقف نصرة للمولى أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في مواجهته مع عدوه الباغي معاوية بن أبي سفيان، فبرزت (رحمها الله) في الولائيات الرافضات للخط المنحرف عن منهج الرسالة القويم محاربةً إياه بسيف الكلمة في ميدان السيف، وهي الزرقاء بنت عدي الهمدانية الكوفية، والبداية ممَّا تُرجِم لها فقالوا فيها: ((هِي امرأة من أهل الْكُوفَة شهِدت مَعَ قَومهَا صفّين وَكَانَ لَهَا لِسَان وعقل))([1])، وأيضًا: ((امرأةً فصيحةً، جَزْلَةَ الرأي، سريعةَ الجواب، وكانت في أيام صِفِّين تقومُ بين الصفوف، وتُحرِّضُ الناسَ على قتال معاوية، وكانت تحبُّ أميرَ المؤمنين (عليه السلام)))([2])، وكذلك: (((خطيبة، من ذوات الشجاعة من أهل الكوفة، شهدت مع قومها واقعة صفين، وخطبت فيها مرات تحرّض الناس على قتال معاوية))([3]).
فكانت (رحمها الله) شخصية متميزة نادرة قياسًا بأفراد جنسها، فأعطاها ذلك التميز أهليه الحضور في صفين والكون في جهازها الإعلامي تطوعًا أو انتخابًا، فالشجاعة قد أهلتها حضور ساحة معركة دامية فوقفت بين صفَّيها بجرأة وثبات، وتأهلت للخطابة في ميدانها بما حازته من ملكة الفصاحة وبداهة الرد وسرعة الجواب، فارتقت منصة صفَّين الإعلامية مع رفيقاتها مثقِّفة لحق أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) محمِّسة أجناد جبهة الحق في الثبات على العقيدة والمضي قدُمًا في تحصيل النصر وهزيمة العدو، مع تعرية جبهة البغي وأجناد الضلالة، ببيان بلغ من ذروته أن أشار زبانية معاوية عليه قتلها فيما بعد([4]).
دوَّن التاريخ موقفها في صفِّين عند استحضارها لدى معاوية بن أبي سفيان بعد أن تسلط على البلاد والعباد، وعندما علمت بطلب الاستحضار قالت: ((إنْ كان الأمرُ إليَّ؛ فلا حاجةَ لي إليه، وإن كنتُ مُكْرَهة فالمُكْره معذور))([5])، وعند حضورها بلاطه عاتبها مذكِّرًا إياها مشاركتها في صفين قائلًا: السِّتِ راكبة الْجمل الأحمر يَوْم صفّين وَأَنت بَين الصفين توقدين الْحَرْب وتحرضين عَلَيْهَا؟ قَالَت: بلَى. قال: فإنَّك قد شَرَكْتِ ابنَ أبي طالب في كل دم سفَكَه، فقالت: أحسنَ اللهُ بِشارَتَك، فقال: واللهِ لَوَفاؤُكم له بعد وفاتِه أعجبُ من حُبِّكم له في حال حياته!([6]).
لم تقف (رحمها الله) منكسرة قبالة عدو الأمس المتباهي بسلطانه وهو يذكرها بتلك المعركة، موهمًا نفسه وحاشيته أنَّه قد خرج منها منتصرًا؛ بل قد ذهب بعيدًا إذ أوحى لها أنَّه كان فيها على الحق محمِّلًا أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) دماء من دفعهم قرابين فداء لعرشه، فتجيبه رحمها الله بكلام أعياه، مؤكَّدة أنَّها قد حضرت المعركة على الصفة التي ذكرها، ثم تصعقه برد وهي تتمنى لو أنَّها واقعًا كانت شريكة أمير المؤمنين في الدماء التي سفكها على ادعاء معاوية، فتدلل بكلامها التزامًا بأنَّ الحق كان مع أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) وهو قطعًا مأجور في كل دم أراقه، وأن تنال شيئًا من ذلك الأجر فهذا من البشارة، فيحير معاوية بجوابها متعجبًا من شدة حبها لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وثباتها على مبدأها الكاشف عن وفاء وولاء لاعتقاد حتى بعد رحيل أمير المؤمنين وانهزامها في الظاهر.
وكان ممّا حفظه من كلامها حين قالت محرِّضة جبهة الحق على القتال: ((أيُّها النَّاس إنَّكم فِي فتْنَة غشيتكم جلابيب الظُّلم وحادت بكم عَن قصد المحجة يَا لَهَا من فتْنَة عمياء صماء لَا يسمع لداعيها، وَلَا ينقاد لسائقها أيُّها النَّاس إنَّ الْمِصْبَاح لَا يضيء فِي الشَّمْس، وإنَّ الْكَوْكَب لَا ينير فِي الْقَمَر، وإنَّ الْبَغْل لَا يسْبق الْفرس وإنَّ الدق لَا يوازي الْحجر وَلَا يقطع الْحَدِيد إِلَّا الْحَدِيد إِلَّا من استرشدنا أرشدناه وَمن سألنا أخبرناه إنَّ الْحق كَانَ يطْلب ضَالَّة فأصابها فصبرًا يَا معاشر الْمُهَاجِرِي والانصار على المضض، فَكَانَ قد التأم شعب الشتات وَظَهَرت كلمة الْعدْل، وَغلب الْحق باطله، فَلَا يعجلن اُحْدُ فَيَقُول كَيفَ وأنى وَلَكِن ليقضي الله أمرًا كَانَ مَفْعُولا وَللَّه عَاقِبَة الْأُمُور، إنَّ خضاب النِّسَاء الْحِنَّاء، وإنَّ خضاب الرِّجَال الدِّمَاء وَلِهَذَا مَا بعده وَالصَّبْر خير فِي العواقب، إيهٍ إِلَى الْحَرْب قدمًا غير ناكصين فَهَذَا يَوْم لَهُ مَا بعده))([7]).
موثِّقة مشاركتها بحروف حماستها، التي بلغت من أثرها وشدتها على جبهة البغي أنَّ معاوية قد حفظ منها واستذكرها لاحقًا، كذلك أنَّ دورها لم يقتصر على تلك الكلمات إذ يستشف من ترجمتها أنَّها كانت كثيرة الخطاب والتحريض إلّا انَّ الذي وصل بين أيدينا خصوص المقطع المذكور، فنقول إن أهملت أقلام رواة التاريخ سائر خطاباتها، فقطعًا لم يهمل الكرام الكاتبون ذلك...
رحمها الله وأشركها في أجر كل دم حرَّضت عليه وأريق بأسياف جند الحق.
الهوامش:
[1])) أخبار الوافدات من النساء على معاوية بن أبي سفيان: 63.
[2])) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: 8/91.
[3])) الأعلام: 3/44.
[4])) ينظر: أخبار الوافدات من النساء على معاوية بن أبي سفيان: 63.
[5])) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: 8/91.
[6])) ينظر: أخبار الوافدات من النساء على معاوية بن أبي سفيان: 64-65، ينظر: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: 8/91-92.
[7])) ينظر: أخبار الوافدات من النساء على معاوية بن أبي سفيان: 64-65، ينظر: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: 8/91-92.