خُطَى الخُزَاعي
لم تُثنَ له الوسادة؛ بل بُسِطت أمامه العقبات منذ انثيال المسلمين عليه بالبيعة للخلافة على الأُمة وحتى شهادته (صلوات الله وسلامه عليه)، فعلى خصومته اجتمع المتخالفون الذين لم يألوا جهدًا في إثارة الشغب وإيقاد فتائل الحروب، فبين فتيل بيد ناكث وقوده الشنآن والمصلحة، وثانٍ بيد باغٍ تائق للسلطة مستقتل في سبيلها، وثالث بيد جاهل متعنت مارق، أُشغلت كليًّا مدَّة حكومته (صلوات الله وسلامه عليه) بالأزمة وانعدام الأمن والاستقرار المجتمعي.
وصفيّن كانت مفصلًا بارزًا من مفاصل تلك الأزمة المفتعلة ضد أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) ومنهجه الإصلاحي، وكانت ثاني واقعة يخوضها (صلوات الله وسلامه عليه) بعد إخماده فتنة الجمل وهزيمة أصحابها، وبعد شروعه (صلوات الله وسلامه عليه) بإقرار حزمة إصلاحات لتعديل الميلان الذي شطَّ بمسيرة المسلمين بعيدًا عن المنهج النبوي القويم، أبان تسلط الثلاثة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان من بينها قراره (عليه السلام) عزل معاوية بن أبي سفيان عن حكومة الشام؛ بوصفه مفتقرًا للمؤهلات والتكليف لهذ الوظيفة، فكان يرى أنَّ من واجبه الشرعي ومقتضى قيامه بوظيفته الإلهية عدم السماح في الإبقاء على من لا يجوز له الحكم والتسلط على حياة الناس ومقدَّراتهم، فما كان من معاوية إلَّا التمرُّد على أمر الخليفة الشرعي، والاستئثار بالحكم على الشام تحت غطاء القصاص من قتلة عثمان بن عفان؛ إذ طالب أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) تسليمه قاتلي عثمان من المسلمين لإقامة الحدِّ عليهم، ولم تثمر جهود أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في ثنيه عن موقفه النفعي المبطن هذا([1])، فراح يقود حملات تحريضية بين أهل الشام ضد أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) رافعًا قميص عثمان متباكيًا على ظلامته!!([2])، وكان ما وراء موقفه هذا مقروءًا من لدن ذوي البصائر، وقد صرَّح أمير المؤمنين (عليه السلام) بخدعته تلك إذ كتب له: (وَقَدْ أَكْثَرْتَ فِي قَتَلَةِ عُثْمانَ، فَادْخُلْ فِيَما دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ، ثُمَّ حَاكِمِ الْقُوْمَ إِلَيَّ، أَحْمِلْكَ وَإِيَّاهُمْ عَلَى كِتَابِ اللهِ، وَأَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِيدُ فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ فِي أَوَّلِ الْفِصَالِ، وَالسَّلاَمُ لأهْلِهِ)([3]).
وقد أثمرت حملات التضليل والتأليب التي قادها جمهورًا مؤيِّدًا للحرب مستعدًا لها، وكان للأموال في إعمال هذه النتيجة الدور الأبرز إذ أشتوريت الذِّمم وزُيفت الحقائق وقُرِّبت رؤوس القوم واستغفل سواد الناس([4])، فلم يبقَ أمام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) إلَّا خيار الحرب فقرر خوض غمارها وكان معه (من أهل بدر سبعون رجلًا، وممَّن بايع تحت الشجرة سبعمائة رجل، ومن سائر المهاجرين والأنصار أربعمائة رجل، ولم يكن مع معاوية من الأنصار إلا النعمان بن بشير، ومسلمة بن مخلد)([5])، في صفيِّن (ما بين أعالي العراق، وبلاد الشام)([6])، وتخللت هذه المعركة تفاصيل كثيرة وكادت تحسم بالنصر لجبهة أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) وهزيمة الباغين، لولا تدارك أهل البغي الموقف بمكيدة رفع المصاحف على أسنة الرماح مغرِّرين بأهل الجهل في جبهة أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) وقادحين شرارة فتنة الخوارج، ومن عوائد تلك المكيدة على جبهة العدو أنَّها أبقت على معاوية الباغي على عرش الشام، وإشغال أمير المؤمنين مع جبهة المنشقين عنه بعيدًا عن معاوية وجبهته، وخلَّفت هذه الواقعة العديد من الشهداء والقتلى في كلا الجانبين وكان عددهم ستون الفًا([7])، وقيل سبعون ألفًا([8])، وقيل تسعون ألفًا([9])، وكان من جملة شهداء جبهة الحق سهيل بن عمرو الأنصاري([10])، وخزيمة ذو الشهادتين (رضوان الله تعالى عليه)([11])، والصحابي الجليل عمّار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه)([12])، مصدِّقًا بشهادته نبوءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكاشفة عن مباركة موقفة وتسمية جبهة معاوية بالبغي حين قال له (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا عمَّار ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فاتبع عليًّا وحزبه، فإنَّه مع الحق والحق معه، يا عمّار إنَّك ستقاتل بعدي مع علي صنفين: الناكثين والقاسطين، ثم تقتلك الفئة الباغية، قلت(أي عمّار): يا رسول الله أليس ذلك على رضا الله ورضاك؟ قال: نعم على رضا الله ورضاي، ويكون آخر زادك من الدنيا شربة من لبن تشربه)([13]). أمَّا أبرز ما أفصحت عنه واقعة صفِّين بعيدًا عن محصِّلتها الميدانية، هو وضوح الفارق بين منهج الخلافة الإلهية الحقّة والخلافة المدعاة الباطلة، بعدم مداهنة الظالم وممالئته على حساب أحكام الله تعالى، والسعي الحقيقي في بسط هذه الأحكام مهما كانت النتائج، فكان من الممكن أن يأمن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) جانب معاوية بإقرار بقائه على حكم الشام وكان ذلك غاية ما يتمناه، لكنَّه (صلوات الله وسلامه عليه) أبى إلَّا الرجوع إلى المنهج الحق وسيادة حكم الله تعالى، وقد ردَّ (صلوات الله وسلامه عليه) على المغيرة حين عرض عليه إبقاء معاوية على الشام إلى حين استتباب الأمر له ثم النظر في أمره بعد ذلك، فقال له: (تضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه؟ قال: لا، قال: لا يسألني الله (عزَّ وجلَّ) عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبدًا: " وما كنت متخذ المضلين عضدا "، لكن أبعث إليه وأدعوه إلى ما في يدي من الحق، فإن أجاب فرجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وإن أبى حاكمته إلى الله)([14])، فيثبت (صلوات الله وسلامه عليه) مبدئيته وتفانيه في تطبيق مراد الله تعالى حتى وإن أفضى ذلك إلى عدم استقرار الأمور واستتبابها، فالغاية عنده دين الله وما الحكم والسلطة إلا واسطة في هذا السبيل، وبرفض معاوية قرار أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، قد وقَّع على ازهاق أرواح الآلاف من المسلمين مرتقيًّا على أكتافهم إلى حيث أمانيه، مضيِّعًا حظهم في الكون تحت مظلة حكومة إلهية حقة تعرِّضهم إلى ببركات الأرض والسماء {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}(المائدة: 66).
الهوامش:
[1] محركه في القتال يفصح عنه بقوله في كتاب له لأمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): ((وقد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك طاعة ولا بيعة...))، كتاب سليم بن قيس، سليم بن قيس الهلالي (ت: ق1): 336.
[2] ينظر: البداية والنهاية، ابن كثير(ت: 774هـ): 7/255.
[3] نهج البلاغة: تحقيق: فارس الحسون :748.
[4] ينظر: وقعة صفِّين، ابن مزاحم المنقري (ت: 212ه):237.
[5] تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي (ت: 284ه): 2/188.
[6] وقعة صفِّين، ابن مزاحم المنقري (ت: 212ه) : 564.
[7] ينظر: تاريخ خليفة بن خياط: 1/196.
[8] ينظر: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: 3/545.
[9] ينظر: المستخرج من كتب الناس للتذكرة والمستطرف من أحوال الرجال للمعرفة: 2/571.
[10] الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 2/669.
[11] ينظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد(ت: 230ه): 4/280.
[12] ينظر: الطبقات الكبرى3/194.
[13] كفاية الأثر، الخزاز القمي(ت:400ه): 121-122.
[14] الأمالي: الشيخ الطوسي (ت:460): 87.