الباحث: عمار حسن الخزاعي
هو مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، أبو حجل الأسدي السعدي، كان رجلًا شريفًا كريمًا عابدًا متنسكًا([1])، وهو من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان شجاعًا عابدًا زاهدًا([2])، وهو من حواريِّ أبي عبد اللَّه الحسين (عليه السلام)([3])، ومن الأبطال العرب في صدر الإسلام، شهد يوم (أذربيجان) وغيره من أيام الفتوح، وكان مع الحسين ابن علي (عليه السلام) وقتل وهو يناضل عنه([4])، وقد وقع التسليم عليه وذكر اسمه في زيارتي الرجبية والناحية المقدسة([5]) .
ومسلم بن عوسجة من الذين ناضلوا بين يدي الحسين (عليه السلام) في كربلاء، فكان شاهد حقٍّ على دعوى الحسين بوصفه أحد أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنَّ أنصار بني أميَّة قد تغاضوا عنه مهمِّشين منزلته في صحبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجهاده في نشر الدين، وقد كانت لمسلم بن عوسجة مواقف مع الحسين (عليه السلام) كشفت عن علوِّ قيمته وسمو إيمانه وعمق عقيدته بأهل البيت (عليهم السلام)، ومن تلك المواقف ما جرى في ليلة العاشر عندما أباح الحسين (عليه السلام) لقومه الرحيل عن طريق اتِّخاذ الليل جملًا لهم، وهنا وقف مسلم بن عوسجة ليسجِّل موقفًا عقائديًّا خلَّده التاريخ بأسطرٍ من ذهب، وكان قوله في ذلك الحين: ((أنحن نخلِّي عنك ولمَّا نعذر إِلَى اللَّهِ فِي أداء حقك! أما وَاللَّهِ حَتَّى أكسر فِي صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي مَا ثبت قائمه فِي يدي، وَلا أفارقك، ولو لَمْ يَكُنْ معي سلاح أقاتلهم بِهِ لقذفتهم بالحجارة دونك حَتَّى أموت معك))([6])، وهذه الكلمات التي تجلجل أسماع المتلقي بهدير صارخ من وهج العقيدة وسمو روح الإيمان، والثقة بالموقف الذي عليه . ولمَّا حان القتال وتسربلت الأرواح بوقائع المعركة، وكانت روح مسلمٍ في أوجِّ استعدادها لمغادرة هذا العالم فداءً لروح الذبح العظيم، وما يمضي الوقت حتَّى دنا عَمْرو بن الحجاج من أَصْحَاب الْحُسَيْن (عليه السلام) وهو يقول: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، الزموا طاعتكم وجماعتكم، وَلا ترتابوا فِي قتل من مرق من الدِّين، وخالف الإمام، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن (عليه السلام): يَا عَمْرو بن الحجاج، أعليَّ تحرِّض الناس؟ أنحن مرقنا وَأَنْتُمْ ثبتم عَلَيْهِ؟ أما وَاللَّهِ لتعلمن لو قَدْ قبضت أرواحكم، ومتُّم عَلَى أعمالكم، أيُّنا مرق من الدِّين، ومن هُوَ أولى بصليِّ النار، ثُمَّ إنَّ عَمْرو بن الحجاج حمل عَلَى الْحُسَيْن (عليه السلام) فِي ميمنة عُمَر بن سَعْد من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أَصْحَاب الْحُسَيْن، ثُمَّ انصرف عَمْرو بن الحجاج وأَصْحَابه، وارتفعت الغبرة، فإذا هو بِهِ صريع، فمشى إِلَيْهِ الْحُسَيْن (عليه السلام) فإذا بِهِ رمق، فَقَالَ له: رحمك ربَّك يَا مسلم بن عوسجة، ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، ثمَّ دنا مِنْهُ حبيب بن مظاهر فَقَالَ: عزَّ عليَّ مصرعك يَا مسلم، أبشر بالجنة، فَقَالَ لَهُ مسلم قولًا ضعيفًا: بشرك اللَّه بخير! فَقَالَ لَهُ حبيب: لولا أنِّي أعلم أنِّي فِي أثرك لاحق بك من ساعتي هَذِهِ لأحببت أن توصيني بكلِّ مَا أهمك حَتَّى أحفظك فِي كلِّ ذَلِكَ بِمَا أنت أهل لَهُ فِي القرابة والدِّين، قَالَ: بل أنا أوصيك بهذا رحمك اللَّه - وأهوى بيده إِلَى الْحُسَيْن - أن تموت دونه، قَالَ: أفعل ورب الكعبة، ثمَّ تنادى أَصْحَاب عَمْرو بن الحجاج: قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي، فَقَالَ شبث بن ربعي لبعض من حوله من أَصْحَابه: ثكلتكم أمهاتكم! إنَّما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذللون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما والذي أسلمت لَهُ لرُبَّ موقف لَهُ قَدْ رأيته فِي الْمُسْلِمِينَ كريم! لقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول الْمُسْلِمِينَ، أفيقتل مِنْكُمْ مثله وتفرحون! ([7]) .
فهذا مسلم بن عوسجة الذي حضر معراج روحه الحسين سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) داعيًا له بالرحمة من ربِّ العالمين، وهكذا تتسامى روح مسلم بين يدي الحسين (عليه السلام) محلِّقة إلى علِّيِّن الفضيلة والإباء، شامخةً بحبِّ ابن فاطمة الزهراء، أبيَّة بنصرة الحقِّ مع سيد الشهداء، وهو يوصي في آخر رمقٍ من حياته بالحسين (عليه السلام)؛ ليكون العاشق الذي يسترخص كلَّ شيء في سبيل من يُحب، وقد هام مسلم في حبِّ الحسين (عليه السلام) حتَّى نسي أن يوصي بأهله سوى الحسين (عليه السلام) ... الرحمة والرضوان لروح مسلم بن عوسجة ونسأل الله تعالى أن يُلحقنا بالركب الذي سار فيه .. آمين رب العالمين
الهوامش:
([1]) ينظر: رجال الطوسي، محمد بن الحسن الطوسي: 105 .
([2]) مستدركات علم رجال الحديث: 7/414 .
([3]) شعب المقال في درجات الرجال: 137 .
([4]) الأعلام، خير الدين الزركلي: 7/222 .
([5]) معجم رجال الحديث، السيد الخوئي: 19/167 .
([6]) تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري: 5/419 .
([7]) تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك: 5/435 – 436 .