الابتلاء منهجية في التربية والتصحيح

مقالات وبحوث

الابتلاء منهجية في التربية والتصحيح

6K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 21-04-2020

خُطى الخزاعي
إنَّ تكامل المخلوقين وارتقائهم إلى ما خلقوا من أجله هو الغاية المنظورة من لدن الحق (جلَّ وعلا) من خلقهم وفطرتهم، وقد أجرى سبحانه وتعالى على الأمم المتعاقبة سننًا يكون مؤداها التوجيه والدفع باتجاه ذلك الهدف المنشود، ومن تلك السُنن المرشدة للخلق الابتلاء، فالابتلاء سيرة إلهية لازمة في منهجية السير نحو التكامل البشري، وقد نوعَّت الآثار الشريفة ومن قبلها الآيات المباركة في بيان تفصيلات هذه المنهجية بإغناء.
ومن تلك التفصيلات بيان الارتباط بين الابتعاد عن الله تعالى والابتلاء من جهة، وبين الابتلاء والإنابة إليه تعالى من جهةٍ أخرى، فتتجلَّى للابتلاء فائدةٌ تصحيحيةٌ تربويةٌ في مسيرة العبد التكاملية، فهو أشبه ما يكون بناقوس يدقُّ محذِّرًا عند مؤشر الابتعاد عن الله تعالى ونسيان المراقبة، ولولاه لبقي أكثر الناس سادرًا في الغي مواصلًا نومة الغفلة، فيكون لمن استفاق وعاد إلى جادة الطريق خير مربٍّ ومرشد، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (الأنعام: 42).
ومن الآثار الشريفة الواردة في الابتلاء؛ عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مرجعًا ابتلاء المرء إلى تقصيره وربط الابتلاءات بالمعصية قائلًا: ((لا يجني على المرء إلَّا يده ولسانه))([1])، وعنه أيضًا: ((إذا غضب الله على أمة ثم لم ينزل بها العذاب غلت أسعارها، وقصرت أعمارها، ولم تربح تجارها، ولم تزك ثمارها، ولم تغزر أنهارها وحبس الله عنها أمطارها، وسلط عليها أشرارها))([2])، وعن الصادق (صلوات الله عليه) رابطًا ابتلاءات بعينها بمعاصٍ بعينها قائلًا: إذا فشت أربعة ظهرت أربعة: إذا فشت الفاحشة كثرت الزلازل، وإذا أمسكت الزكاة هلكت الماشية، وإذا جار الحكام في القضاء أمسك القطر من السماء، وإذا خفرت الذمة نصر المشركون على المسلمين([3]).
وإلى دور الابتلاء في التنبيه والإيقاظ يقول المولى أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): ((إذا رأيت الله سبحانه يتابع عليك البلاء فقد أيقظك، وإذا رأيت الله سبحانه يتابع عليك النعم مع المعاصي فهو استدراج لك))([4])، وفي معناه عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه): ((إذا أراد الله (عزَّ وجلَّ) بعبدٍ خيرًا فأذنب ذنبًا تبعه بنقمة ويذكره الاستغفار، وإذا أراد الله (عزَّ وجلَّ) بعبدٍ شرًا فأذنب ذنبًا تبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى به، وهو قول الله عز وجل: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} (الأعراف: 182) بالنعم عند المعاصي))([5])، وأيضًا عن الأمير (صلوات الله وسلامه عليه) قوله: ((إن الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائبٌ ويقلع مقلعٌ، ويتذكر متذكِّرٌ ويزدجر مزدجر))([6])‘ فتصرِّح الروايات الشريفة بدور الابتلاء في ارجاع الإنسان المؤمن وتنبيهه؛ ليصحح ما انحرف فيه عن المسار، فهو وإن كان في جنبته الظاهرية مشتملًا على الألم والمشقة والتعب؛ إلَّا أنَّه مستبطن للرحمة الإلهية الجاذبة بتلابيب العبد عن مواصلة الذنب والإصرار عليه، فيكون قد سار شوطًا في مسيرة تكامله، وفي حديث آخر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كاشفًا عن طغيان في النفس البشرية لا ينكسر إلَّا بالابتلاء، فقال: ((لولا ثلاثة في ابن آدم ما طأطأ رأسه شيء: المرض، والموت، والفقر، وكلهن فيه، وإنه لمعهن لوثَّاب))([7])، وبالرجوع إلى الحقِّ تعالى يكون قد أدرك العبد مغزى الابتلاء، وسوف يرى وجه الرحمة المنطوي فيه، وقد وجَّهت بعض الآثار الشريفة العبد إلى الفرار إلى الله تعالى والالتجاء إليه في الابتلاءات والملمات ننتخب منها: ((فيما أوحى الله إلى موسى: يا موسى، ... اتخذني جُنَّة للشدائد وحصنًا لملمات الأمور))([8])، وعن المولى أمير المؤمنين قوله: ((قل عند كل شدة: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم تُكفَها))([9])، وأخيرًا مع الإمام الرضا (صلوات الله عليه) قائلًا: ((رأيت أبي (عليه السلام) في المنام فقال: يا بني، إذا كنت في شدة فأكثر أن تقول: " يا رؤوف يا رحيم "))([10]).
وممَّا تقدَّم من طرح لا يفهم منه أنَّ الابتلاء ملازم لخصوص حالة الذنب والمعصية فقط وأن يكون تربويًا دائمًا، إذ من المعلوم أنَّ أهل الطاعة والإيمان هم أكثر الناس بلاءً وامتحانًا في دار الدنيا من غيرهم من الخلق، وانَّه بالنسبة إليهم كسلم يرتقون به إلى أعلى المقامات والمنازل، فعن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) مبيِّنًا ذلك: ((إنَّ أشد الناس بلاء النبيون، ثم الوصيون، ثم الأمثل فالأمثل، وإنَّما يبتلي المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صح دينه وحسن عمله اشتد بلاؤه، وذلك أن الله (عزَّ وجلَّ) لم يجعل الدنيا ثوابًا لمؤمن ولا عقوبة لكافر، ومن سخف دينه وضعف عمله قل بلاؤه، وإن البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض))([11])، كما لا يفهم أنَّ الابتلاء يقتصر على ما فيه مشقة وألم؛ فعنوان الابتلاء أعم من ذلك، والصور فيه متكثرة حتى لَتُعد النعمة والتوسعة على العبد من الابتلاء كما قال تعالى: { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (الفجر: 15-16)، فالمأخوذ في الكلام خصوص الابتلاء الذي يعقب المعصية ووظيفته التربوية - دون سائر تفصيلات هذا العنوان- التي من الواجب على أهل الإيمان ممَّن خلَّط أعماله الحسنة بالسيئة، تفعيلها إلى تنقية عمل وتصحيح مسار.
نسأل الله تعالى الإنابة وحسن العاقبة بمحمد وآله الطاهرين.
الهوامش:
[1])) بحار الأنوار: العلامة المجلسي (ت: 1111): 74/168.
[2])) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق (ت: 381): 1/524، ح1489.
[3])) ينظر: الخصال، الشيخ الصدوق (ت: 381): 242، ح95.
[4])) ميزان الحكمة، محمد الريشهري: 1/305.
[5])) علل الشرائع، الشيخ الصدوق (ت: 381): 2/561، ح1.
[6])) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 199، خطبة: 143.
[7])) بحار الأنوار: 69/53، ح82.
[8])) الكافي، الشيخ الكليني (ت: 329): 8/46.
[9])) تحف العقول عن آل الرسول (ص)، ابن شعبة الحراني (ت: ق4): 174.
[10])) مهج الدعوات ومنهج العبادات، السيد ابن طاووس (ت: 664): 333.
[11])) الكافي: 2/259، ح29.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2677 Seconds