الباحث: علي عباس فاضل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد...
يبقى البحث في كلام آل البيت (عليهم السلام) ذا طابع معرفي واسع، لما يشمله هذا الكلام من سعة لغوية ثرية بألفاظها وتراكيبها، لذا تجد في كلامهم (عليهم السلام) مادة لغوية قلَّ لا تجدها عند متحدث مهما بلغ في الفصاحة والبلاغة، وتجد ذلك ماثلا في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهو أمير البيان وسيد البلغاء وأفصح الفصحاء، حفل نهج البلاغة بثروة لغوية كبيرة، إذ جاءت ألفاظه وتراكيبه على نمط عال من الدقة في الاختيار والتطابق والتراصف فيما بينها، واستعمل الإمام (عليه السلام) بعض الألفاظ الغريبة على المتلقي الذي يكون غالبا محدود المعرفة اللغوية، لذا عليه أن يرجع إلى مصادر اللغة لفهم بعض هذه الألفاظ.
والمطلع على نهج البلاغة يجده حافلا بهذه الألفاظ، في خطبه ورسائله وكتبه وحكمه، ومن هذه الخطب الخطبة الشقشقية التي وردت فيها بعض الألفاظ الغريبة ومنها في قوله (عليه السلام): "وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَة عَمْيَاءَ"([1]).
والكشح في اللغة " من لدن السرة إلى المَتْن ما بَيْنَ الخاصِرة إلى الضِلَع الخَلْف، وهو مَوضِع مَوقِع السَّيْف إلى المُتَقَلِّد. وطَوَى فلانٌ كَشْحَه على أمر: إذا استَمَرَّ عليه وكذلك الذاهب القاطع ... يقال: طَوَى كَشْحَه عَنّي: إذا قَطَعَكَ وعاداكَ. وكاشَحَني فلانٌ بالعَداوة"([2])، فالمعنى اللغوي يشير إلى أن الإمام (عليه السلام) ترك أمر الخلافة مقاطعا له ومعاديا.
ومن الألفاظ ما جاء في قوله (عليه السلام): "إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ، نَافِجَاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلهِ وَمُعْتَلَفِهِ"([3]).
فقوله (نافجا) من النفج و" نفج اليربوع يَنفُجُ، وينفِجُ نُفُوجاً، ويَنتفجُ انتفاجاً، وهو أوحى عدوه. وأنفجه الصائدُ: أثارهُ من مجثمه ومكمنه. ويقال للصَّيد وكل شيءٍ ارتفع فقد انتفجَ، حتى يقال: رجلٌ مُنتَفِجُ الجَنبين، وبعير مُنتفجٌ إذا خرجت خواصرُه. ورجل نفاجٌ: ذو نفجِ، يقول ما لا يفعل، ويفتخر بما ليس له ولا فيه، وهو ينفجُ نَفجاً"([4]). فالمعنى يشير إلى أن هذا الشخص قام يعدو كاليربوع الذي يثار من مكان اختبائه، وهيأة هذا الشخص كالبعير الذي خرجت خواصره، أي ظهرت من الجانبين، وهو الرجل الذي يقول ما لا يفعل ويفتخر بما لغيره، وهي من الصفات المذمومة.
و (نثليه) من النثل " يقال: أخَذَ دِرْعَه فنَثَلَها عليه. والنَّثْل: نَثْرُكَ الشيءَ كلَّه بمَرَّةِ. ونَثَلَ الرجلُ: سَلَحَ"([5])، أي نثر حضنيه مثلما يفعل اليربوع والبعير، ثم استخرج كل ما في نفسه يقال: " نثلت كِنَانَتِي نثلا إِذا استخرجت مَا فِيهَا من النبل. وَكَذَلِكَ نثلت الْبِئْر إِذا استخرجت ترابها وَاسم ذَلِك التُّرَاب النيلة. وَرُبمَا سمي الروث نثيلا"([6]).
والمعتلف من (علف) و " عَلَفْتُ الدّابةَ أَعْلِفُها عَلْفاً، أي: أطعمتها العَلَف. والمِعْلَفُ: موضع العَلَف. والدّابة تعتلف، أي: تأكل، وتستعلِفُ، أي: تطلب العَلَفَ بالحمحمة. والشّاة المُعَلَّفة هي التي تسمّن"([7])، والمعتلف هو الموضع الذي يدخل منه العلف([8]).
وجاء في قوله (عليه السلام): "وَشُقَّ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ"([9])، (عِطْفَايَ) مثنى مفرده (العِطف) وهو الجانب "وعِطْفا كلِّ شيءٍ جانباه وعِطْفا الإنسان من لدنْ رأسِه إلى وركه"([10])، وقد يكون المنكب أو الإبط "وعِطْفا الرجل: ناحيتاه عَن يَمِين وشِمَال. ومَنْكِب الرجل: عِطْفه وإبطه عطفه"([11])، وكلام الإمام (عليه السلام) يشير إلى أنهم شقوا رداءه الذي على عطفيه، أو أنهم خدشوا جانبيه من شدة الزحام والتدافع على مبايعته([12]).
وختاما: نسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا مع محمد وآل محمد في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 48.
([2]) العين: 3/ 57.
([3]) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 49.
([4]) العين: 6/ 145.
([5]) العين: 8/ 226.
([6]) جمهرة اللغة: 1/ 432.
([7]) العين: 2/ 144.
([8]) ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 1/ 197.
([9])نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 49.
([10]) العين: 2/ 17.
([11]) تهذيب اللغة: 2/ 106.
([12])ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 1/ 126.