عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
لم يترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمَّة سدىً من دون أن يحدِّد لهم المسار القويم والصراط المستقيم، ولو فعل ذلك لاتُّهم بعدم الحكمة حاشاه؛ إذ كيف يترك الأمَّة على هواها من غير بيانٍ لكيفيَّة القيادة فيها، أو بمن يستقيم الأمر بعده، ولو عدنا إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) لوجدناه قد أوصى بطرفين وجعلهما سبيل الاعتصام بعده، وشرط للأمَّة إن تمسَّكت بهذين الطرفين فإنَّها لن تضلَّ بعده، وهذا الأمر أورده بمناسبات كثيرةٍ وحوادث متنوِّعة، وممَّا قال في هذا الصدد: ((إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْآخَرُ عِتْرَتِي: أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا))([1])، ثمَّ يُكرِّر هذه الوصيَّة في حادثة الغدير فيقول: ((أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبُهُ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَخُذُوا بِهِ فَحَثَّ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي))([2])، ثمَّ يُعيد هذه الوصية في آخر خطبةٍ له وهو مريض قائلًا: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، إِنَّهُ لَنْ تَعْمَى أَبْصَارُكُمْ، وَلَنْ تَضِلَّ قُلُوبُكُمْ، وَلَنْ تَزِلَّ أَقْدَامُكُمْ، وَلَنْ تَقْصُرَ أَيْدِيكُمْ، كِتَابُ اللَّهِ سَبَبٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، طَرَفُهُ بِيَدِهِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَاعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَأَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، أَلَا وَأَهْلُ بَيْتِي وَعِتْرَتِي، وَهُوَ الثَّقَلُ الْآخَرُ، فَلَا تَسُبُّوهُمْ فَتَهْلِكُوا))([3]) . ومن هنا أصبح العاصم للأمَّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتاب الله تعالى وأهل بيت النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، وصار على الأمَّة لزامًا أن يتمسَّكوا بهاتين العروتين والسير على هديهما؛ ولكنَّ المسلمين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد تفرَّقوا واختلفوا بهذا الشأن، وسيحشر النَّاس كلًّا بإمامهم .
وأمَّا من تمسَّك بالقرآن والعترة فإنَّه لازم هذين الطرفين وضلَّ يستقي من معينهما العذب، وسنحاول في هذه العجالة أن نفهم بعض آيات كتاب الله تعالى من أحد أفراد صنوه، وهو علي بن موسى الرِّضا (عليه السلام) بوصفه أحد أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) عدل القرآن وترجمانه .
في البدء لا بدَّ من بيانِ أنَّ الإمام الرضا (عليه السلام) قد خلَّف لنا تراثًا ضخمًا في تفسير القرآن الكريم في روايات كثيرةٍ تستحقُّ أن يُفرد لها دراساتٍ كثيرة، ومن هنا ندعو السادة الباحثين بأن يُعملوا أقلامهم في تتبُّع ذلك التراث ودراسته . وسننقل بعضًا ممَّا ورد عنه (صلوات الله عليه) في تفسير القرآن الكريم وخصوصًا للمواضع التي لم يفهما غالب المفسِّرين، وسنبدأ ببانه الدقيق للتلازم بين القرآن والعترة مستدلًّا عليه من كتاب الله تعالى بآياتٍ محكمات، وقد بيَّن أنَّ من أنكر وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأوَّلها بتأويلاتٍ أوهى من بيت العنكبوت، أو أنكر وجود النصِّ لإمامة أهل البيت (عليه السلام) في القرآن الكريم فهؤلاء قوم أصابهم الجهل ووقعوا في خديعة الشياطين من الإنس والجن، وقد برهن على ذلك بقوله: ((جَهِلَ الْقَوْمُ وخُدِعُوا عَنْ آرَائِهِمْ، إِنَّ اللَّه (عز وجل) لَمْ يَقْبِضْ نَبِيَّه (صلى الله عليه وآله) حَتَّى أَكْمَلَ لَه الدِّينَ، وأَنْزَلَ عَلَيْه الْقُرْآنَ فِيه تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، بَيَّنَ فِيه الْحَلَالَ والْحَرَامَ والْحُدُودَ والأَحْكَامَ وجَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْه النَّاسُ كَمَلًا فَقَالَ (عز وجل): ﴿ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ﴾، وأَنْزَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وهِيَ آخِرُ عُمُرِه (صلى الله عليه وآله) ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾، وأَمْرُ الإِمَامَةِ مِنْ تَمَامِ الدِّينِ ولَمْ يَمْضِ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى بَيَّنَ لأُمَّتِه مَعَالِمَ دِينِهِمْ وأَوْضَحَ لَهُمْ سَبِيلَهُمْ، وتَرَكَهُمْ عَلَى قَصْدِ سَبِيلِ الْحَقِّ وأَقَامَ لَهُمْ عَلِيًّا (عليه السلام) عَلَمًا وإِمَامًا ومَا تَرَكَ لَهُمْ شَيْئًا يَحْتَاجُ إِلَيْه الأُمَّةُ إِلَّا بَيَّنَه))([4]) .
وفي موضعٍ آخر يحلُّ الإمام الرضا (عليه السلام) إشكال خطيئة آدم (عليه السلام)، وفحوى هذا الإشكال أنَّ الله تعالى أخبر بما ظاهره أنَّ آدم (عليه السلام) ارتكب المعصية، وهذا يتعارض مع ما هو مستقرٌّ في الأذهان من أنَّ الأنبياء معصومون لا يجوز عليهم الخطأ، وهنا الخطاب القرآني يُسند الخطأ بصورةٍ مباشرة إلى آدم (عليه السلام) ومن دون تبريرٍ لخطئه، ثمَّ يصفه بالغواية، وقد شكَّلت هذه التساؤلات إشكالًا لدى المأمون العبَّاسي، وما كان منه إلَّا أن توجَّه إلى الإمام علي بن موسى الرِّضا (عليه السلام) من أجل بيانه، فسأله بقوله: ((يا بن رسول الله أليس من قولك: الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، قال: فما معنى قول الله (عز وجل): ﴿وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾؟ فقال (عليه السلام): إنَّ الله تبارك وتعالى قال لادم: ﴿وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ [البقرة: 35]، وأشار لهما إلى شجرة الحنطة ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 35]، ولم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة، ولا ممَّا كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها، وإنَّما أكلا من غيرها لمَّا أن وسوس الشيطان إليهما وقال: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ﴾ [الأعراف: 21]، وإنَّما ينهاكما أن تقربا غيرها، ولم ينهكما عن الأكل منها ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ الأعراف: [20 – 21]، ولم يكن آدم وحوا شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبًا، ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾ [الأعراف: 22]، فأكلا منها ثقةً بيمينه بالله، وكان ذلك من آدم قبل النبوة، ولم يكن ذلك بذنبٍ كبيرٍ استحقَّ به دخول النار، وإنَّما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم، فلمَّا اجتباه الله تعالى وجعله نبيًا كان معصومًا لا يذنب صغيره ولا كبيره، قال الله (عز وجل): ﴿وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ [طه: 121 – 122]، وقال (عز وجل): ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 33]))([5]) .
وفي منحىً آخر يتصدَّى الإمام الرضا (عليه السلام) لبيان قوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: 3]، ومعلوم أنَّ هذا الخطاب موجَّه للرسول محمَّد (صلى الله عليه وآله) وظاهره أنَّ للنبي ذنوبًا وقد وعده الله تعالى بأن يغفرها له، وقد صرَّح جمع من المفسِّرين بذلك، إلَّا أنّض الإمام الرضا (عليه السلام) بيَّن حقيقة هذا الأمر بقوله: ((لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبًا من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ لأنَّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنمًا، فلمَّا جاءهم (صلى الله عليه وآله) بالدعوة إلى كلمه الإخلاص، كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا: ﴿أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص: 5 - 7]، فلمَّا فتح الله (عز وجل) على نبيه (صلى الله عليه وآله) مكة قال له يا محمد: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ﴾ مكة ﴿فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدَّم وما تأخَّر؛ لأنَّ مشركي مكَّة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم ذلك مغفورًا بظهوره عليهم))([6]) .
وفي إشكالٍ آخر يتأوَّل بعض المفسِّرين قوله تعالى: ﴿ووَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: 7]، بأنَّ النبي حاشاه كان ضالًّا، ولذلك تصدَّى الإمام الرضا (عليه السلام) لهذا الأمر وأوضح المراد بقوله: ((قال الله (عز وجل) لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله): ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى﴾ يقول: ألم يجدك وحيدًا فآوى إليك الناس ﴿ووَجَدَكَ ضَالًّا﴾ يعني عند قومك ﴿فَهَدى﴾ أي هداهم إلى معرفتك ﴿ووَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى﴾ يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجابًا))([7]) .
فالضلالة ليست هنا بمعنى الضلالة الدِّينيَّة؛ وإنَّما الضلالة المعرفيَّة بشخص النبي (صلى الله عليه وآله)؛ وذلك لأنَّ قوم النبي لم يكونوا يعرفون بأنَّه نبي مرسل من لدن الله تعالى فهم ضالِّين عن هذه المعرفة، ولمَّا تبيَّن لهم ذلك اهتدوا، أمَّا سبب مجيئ الصيغة (ضالًا) على هذا الشكل فذلك يمكن أن يكون من أجل اتِّساق الفاصلة القرآنيَّة، فعبَّر باسم الفاعل وأراد المفعول؛ لأنَّه لو عبَّر بصيغة المفعول لما اتَّسقت الفاصلة بما هي عليه الآن؛ لأنَّ التعبير سيكون في غير القرآن: ألم يجدك مضلولًا عنك فهدى .
ومن هذه الأمثلة اليسيرة يتبيَّن عمق الاتِّصال وشدَّة الترابط بين العترة والقرآن، ويتبيَّن أيضًا دلالة قول النبي ووصيَّته التي أمرنا بها بالتمسُّك بالقرآن وأهل البيت، فهما العروة الوثقى والسبيل المستقيم والصراط القويم . جعلنا الله تعالى وإيَّاكم ممَّن يتَّبع نهج الرسول وكتاب الله تعالى وأهل البيت .
الهوامش:
([1]) لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/4 ، موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور: 1/444 ، تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن: 1/21 .
([2]) معالم التنزيل في تفسير القرآن - تفسير البغوي: 2/76 ، تفسير القرآن العظيم: 6/415 ، اللباب في علوم الكتاب: 5/426 ، الأساس في التفسير: 8/4438 .
([3]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: 1/36 ، البحر المحيط في التفسير: 1/24 ،
([4]) الإيضاح: 59 ، الكافي: 1/198 – 199 ، كمال الدين وتمام النعمة: 675 – 676 ، البرهان في تفسير القرآن: 4/282 ، كنز الدقائق وبحر الغرائب: 4/35 .
([5]) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 1/74 – 75 .
([6]) عيون أخبار الإمام الرضا (عليه السلام): 1/180 ، الاحتجاج: 2/222 ، البرهان في تفسير القرآن: 4/642 – 643 ، تفسر نور الثقلين: 4/443 ، الميزان في تفسير القرآن: 18/271 .
([7]) عيون أخبار الرضا (عليه السلام):1/177 ، البرهان في تفسير القرآن: 5/685 ، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: 25/337 ، التفسير الصافي: 5/341 – 342 ، تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب: 9/464 ، الميزان في تفسير القرآن: 20/312 .