عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين..
أخذت جرائم بني أميَّة تتصاعد وتيرتها منذ أن أعلن معاوية تمرُّده في الشام أمام الخلافة الشرعية لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد تسبَّب بمعركة كبيرةٍ خلَّفت آلاف الضحايا من المسلمين، وتلك المعركة هي معركة صفِّن، التي راح ضحيتها ستون ألفاً([1])، وقيل: سبعون ألفاً([2])، وقِيلَ: تِسْعُونَ أَلفًا([3])، وقد وصف بعضهم حال القتلى فقال: ((فلقد بلغني أنه كان يُدفن في القبر خمسون إنساناً. قال معمر: فلقد رأيتها مدّ البصر، يعني قبورهم))([4]). وبعد أن استتبَّ لمعاوية الأمر بالخديعة والمكر والحيلة بدأت مذابح جديدة لمعاوية، ومنها مذابح بسر بن أرطأة الذي أمره معاوية بن أبي سُفيان بقتل ((كلِّ من كان في طاعة علي فقتل خلقاً كثيراً))([5])، مروراً بجرائم زياد بن أبيه الذي تتبّع بأمرٍ من معاوية كلّ من والى علياً (عليه السلام) بالقتل والتشريد([6]).
ثمَّ يهلك معاوية فيذهب إلى ربِّه بتلك بخطايا تلك الألوف التي تسبَّب في إراقة دمائها بلا وجه حق؛ ليأتي عصر ابنه يزيد بن معاوية، الذي بدأ حكمه بفاجعة كربلاء ما جرى فيها على أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبناته، إذ حُوصِر الحسين (عليه السلام) مع أهل بيته، وثلة من أصحابه في كربلاء، ومُنعوا شرب الماء([7])، وقد تسابق جيش حاكم المسلمين لقتل أولاد الرسول (صلى الله عليه وآله)، فقتلوا النساء([8])، وحتَّى الأطفال([9])، ولم يكتفوا بذلك إذ هجم الجيش على الخيام والحُلل والإبل فانتهبوها، وحال الناس على نساء الحسين وثقله ومتاعه، حتى صاروا ينازعون المرأة ثوبها عن ظهرها([10])، و((تسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول وقُرّة عين الزهراء البتول... وخرجْنَ بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحريمه يتساعدْنَ على البكاء ويندبن لفِراق الحماة والأحبَّاء))([11]). وبعد فصول الفاجعة الأليمة، جُمعت النسوة مع زين العابدين المريض وأُخذوا سبايا إلى الشام مركز الخلافة، التي كانت تنتظر موكب السبايا بشغفٍ من أجل البدء بمراسيم الاحتفال بقتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسبي بناته([12]).
وتستمر جرائم بني أميَّة ليكون محلَّها هذه المرة في مدينة رسول الله (صلَّى عليه وآله)، وكأنَّ الله تعالى ابتلاهم لعدم نصرتهم الحسين (عليه السلام)، ولم يُصدِّقوا ما قال لهم الإمام الحسين من أنَّ يزيد بن معاوية رجل فاسق فاجر ولا تحلُّ له حكومة المسلمين،
وبعد واقعة كربلاء تحصل جريمة أخرى لا تقلُّ عنها بشاعة وهي واقعة الحرّة، وملخّصها في ذهاب وفدٍ من أبناء المهاجرين والأنصار إلى دمشق مركز الخلافة للقاء الخليفة، ولمّا حصل اللقاء رأى الوفد في سلوك يزيد بن معاوية القبيح والسَّيئ، وبعد ذلك يرجع الوفد إلى المدينة وهناك أظهروا شتم يزيد وعيبه، ومن جملة ما قالوا: قدمنا من عند رجلٍ ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب الطنابير، وتعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويُسمّر عنده الحراب... وإنّا نشهدكم أنّا قد خلعناه، وقال عبد الله بن حنظلة: لو لم أجد إلاّ بنيَّ هؤلاء لجاهدته بهم، وقد أعطاني وأكرمني، وما قبلت عطاءه إلاّ لأتقوَّى به. ثمَّ خلع الناس يزيداً وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل، وولّوه عليهم([13]).
وعبد الله بن حنظلة الغسيل، هو ابن الصحابي الشهيد، وقصَّته أنَّه في يوم معركة أحد على امرأته جميلة ووقع عليها، ((فعلقت بعبد الله في شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة، وقتل حنظلة يومئذ شهيدا فغسلته الملائكة، فقال لولده: بنو غسيل الملائكة، وولدت جميلة عبد الله، فقبض رسول الله (صَلى اللهُ عَلَيه [وآله]) ولعبد الله سبع سنين. ولما وثب أهل المدينة ليالي الحرة فأخرجوا بني أمية عن المدينة، وأظهروا عيب يزيد، أجمعوا على عبد الله، فأسندوا أمرهم إليه فبايعهم على الموت وقال: يا قوم، اتقوا الله وحده، فو الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إن رجلا ينكح الأمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت للَّه فيه بلاء حسنا. فتواثب الناس يومئذ يبايعون من كل النواحي. وما كان لعبد الله بن حنظلة تلك الليالي [3] مبيت إلا المسجد، فلما دخلوا المدينة قاتل حتى قتل يومئذ))([14]) .
ولمّا بلغ يزيد الخبر أرسل إليهم مسلم بن عقبة في جيش جرار، وبعد حربٍ ضارية انتصر الجيش الشامي، ودخل المدينة، قال ابن كثير: ((ثُمَّ أَبَاحَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ، الَّذِي يَقُولُ فِيهِ السَّلَفُ مسرف بن عقبة- قبحه الله من شيخ سوء ما أجهله- الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا أَمَرَهُ يَزِيدُ، لَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَشْرَافِهَا وَقُرَّائِهَا وَانْتَهَبَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً مِنْهَا، وَوَقَعَ شَرٌّ عَظِيمٌ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ))([15])، ثمَّ إنَّ الجيش الأموي تمادى في غيِّه حتَّى انتهك الأعراض، وقي في ذلك: ((وَوَقَعُوا عَلَى النِّسَاءِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ حَبِلَتْ أَلْفُ امْرَأَةٍ فِي تلك الأيام من غير زوج... قَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: وَلَدَتْ أَلْفُ امْرَأَةٍ مِنْ أهل المدينة بعد وقعة الْحَرَّةِ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ))([16])، وقد بلغ القتلى في واقعة الحرَّة ((سبعمائة من وجوه الناس من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الموالي، وممن لا يعرف من عبد وحر وامرأة عشرة آلاف))([17])، ثُمَّ نُصِبَ كرسيٌ لمسلم بن عقبة، وجيء بالأسرى من أهل المدينة فكان يُؤمر كل واحدٍ منهم أن يبايع ويقول: إنّني عبدٌ مملوك ليزيد بن معاوية يتحكم فيَّ وفي دمي وفي مالي وفي أهلي ما يشاء([18])، والذي يمتنع ولا يبايع بالعبوديّة ليزيد، ويُصرّ على القول بأنّه عبدٌ لله (جلَّ وعلا) يُباشر بالقتل([19])، والأدهى من هذا قول مسلم بن عقبة: ((اللَّهمّ إِنِّي لَمْ أَعْمَلْ عَمَلًا قَطُّ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَا أَرْجَى عِنْدِي مِنْهُ))([20]).
بعدها توجّه مسلم بن عقبة ومن معه إلى مكة، التي ثار فيها عبد الله بن الزبير على الحكم الأموي، وفي الطريق يهلك مسلم بن عقبة، وتصير القيادة إلى حُصين بن نُمير بناءً على أوامر يزيد، وعندما وصل الحُصين أطراف مكة فرض حصاراً عليها وضرب الكعبة بالمنجنيق وأحرقها، وفي هذا الوقت يموتُ يزيد ((وكانت صحيفة أعماله في مدة حكمه - الذي استمرّ ثلاث سنوات وبضعة أشهر - مسودة بقتل ابن بنت النبي، وأسر أهل بيت الوصي وحرائر الرسالة، إلى جانب القتل الجماعي لأهل المدينة، وهدم الكعبة المشرفة))([21]). ثمَّ يبدأ الصراع بين عرب الشام، بسبب المنافسة بين أفراد العائلة الأموية على الحكم، واستمرّ النزاع حتّى عُقد مؤتمر الجابية، الذي خَلُص إلى مبايعة مروان بن الحكم بالخلافة([22])، ثمَّ يخلفه ابنه عبد الملك، الذي سُئل عنه الحسن البصري فقال: ((ما أقول في رجلٍ كان الحجاج سيئة من سيئاته))([23])، وكان الحجاج بن يوسف الثقفي ((كان لا يصبر عن سفك الدماء، ويخبر أنه أكبر لذّاته))([24]) .
وهكذا تتوالى جرائم بني أميَّة في قتل النَّاس وانتهاك أعراضهم، وما واقعة الحرَّة إلَّا واحدة من تلك الجرائم .
الهوامش:
([1])ينظر: تاريخ خليفة بن خياط: 1/196 ، تاريخ بغداد، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي: 10/172.
([2])ينظر: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: 3/545، بغية الطلب في تاريخ حلب: 1/311
([3])ينظر: المستَخرجُ من كُتب النَّاس للتَّذكرة والمستطرف من أحوال الرِّجال للمعرفة: 2/571
([4])بغية الطلب في تاريخ حلب: 1/312 .
([5]) تاريخ الأمم والملوك (المعروف بتاريخ الطبري): 6/ 157، ينظر: الكامل في التاريخ: 4/ 209.
([6]) ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: 3/ 595.
([7]) ينظر: مقتل الحسين ومصرع أهل بيته وأصحابه في كربلاء (المشتهر بمقتل أبي مخنف): 98.
([8]) كأم وهب، ينظر: تاريخ الأمم والملوك (المعروف بتاريخ الطبري): 5/ 429.
([9]) ينظر: مقتل الحسين، الخوارزمي: 2/ 32، البداية والنهاية: 8/ 188.
([10]) ينظر: المصدر نفسه: 3/ 434، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: 2/ 112، الكامل في التاريخ: 3/ 295.
([11]) اللهوف على قتلى الطفوف: 180.
([12]) ينظر: بحار الأنوار: 45/ 127.
([13]) ينظر: تاريخ الملوك والأمم (المعروف بتاريخ الطبري): 5/ 479-480، بحار الأنوار: 46/ 139، أيام العرب في الإسلام: 420.
([14]) المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، جمال الدين أبو الفرج (ت: 597هـ): 6/19 ، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، سبط ابن الجوزي (581 - 654 هـ): 8/193 .
([15]) البداية والنهاية، ابن بن كثير (ت: 774هـ): 8/220 .
([16]) المصدر نفسه .
([17]) المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، ابن الجوزي (ت: 597هـ): 6/16 .
([18]) ينظر: مروج الذهب: 3/ 70، البداية والنهاية: 8/ 222.
([19]) ينظر: المصدر نفسه، الكامل في التاريخ: 4/ 118.
([20]) تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، الذهبي (ت: 748هـ): 5/33 .
([21]) أعلام الهداية، الإمام علي بن الحسين (زين العابدين): 78.
([22]) ينظر: تاريخ الإسلام: 1/ 289.
([23]) المختصر في أخبار البشر، أبو الفداء عماد الدين صاحب حماة (ت: 732هـ): 1/198.
([24]) شذرات الذهب في أخبار من ذهب، عبد الحي بن أحمد الحنبلي (ت: 1089هـ): 1/379 .