بقلم: السيد نبيل الحسني
الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصي نعمائه العادّون ولا يؤدي حقه المجتهدون وأزكى صلواته وأتم سلامه على خير خلقه وأشرف رسله وآله أساس الدين وعماد اليقين..
أما بعد:
ترتكز جهود الإمام زين العابدين عليه السلام في إنماء الحركة العلمية في أمور ثلاثة، وهي:
أولاً: تصنيفه لبعض العلوم
ثانياً. تأسيسه لمدرسته العلمية في الفقه والحديث والتفسير.
ثالثاً: تفقه جملة من التابعين على يديه.
وهي على النحو الآتي الذي سنتناول فيه الفقرة أولا وثانيا، أما ثالثا فيخصص لها مقال آخر إن شاء الله تعالى :
أولاً. تصنيفه لبعض العلوم
إن مما تمتاز به مدرسة العترة النبوية عليهم السلام هي اسبقيتها في التدوين والتأليف والتصنيف للعديد من العلوم ومنذ حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ولقد استمرت هذه الجهود والحركة العلمية في هذه المدرسة على ايدي أئمة العترة النبوية عليهم السلام، فكان للإمام علي بن الحسين عليهما السلام مجموعة من الكتب في العلوم المختلفة، وهي كالاتي:
1ـ الصحفية السجادية:
وقد تناول العديد من العلماء الحديث عنها وبيان منزلتها واثارها في العقيدة والتربية والنفس، والاجتماع، والاسرة وغيرها من علوم الحياة.
2ـ رسالة الحقوق.
أما ما يخص رسالة الحقوق (التي تشتمل على خمسين مادة، بيّن فيها حق الله تعالى، على الإنسان وحقوق نفسه عليه، وحقوق اعطائه من اللسان، والسمع، والبصر، والرجلين، واليدين، والبطن والفرج، ثم يذكر حقوق الافعال من الصلاة والصوم والحج، والصدقة، والهدي وحق الوالد، وحق الولد، وحق المعلم، ثم يذكر حقوق الأئمة والرعية وغيرها من الحقوق)[1]؛ وقد رواها الحسن بن شعبة[2]، والشيخ الصدوق[3]. والمجلسي[4] وغريهم[5].
3ـ كتاب مناسك الحج.
وهي رسالة ضمت أحكام الحج، وتتكون من ثلاثين باباً، وقد رواها عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) ثلاثة من ابنائه وهم الإمام محمد الباقر (عليه السلام) وزيد الشهيد، وحسين الاصغر.
4ـ كتاب الزهد.
وهو كتاب رواه عنه أبو حمزة الثمالي (ثابت ابن ابي المقدام، وقد قرأه على الإمام في حياته (عليه السلام).
قال رحمه الله:
(قرأت صحيفة فيها كلام زهد، من كلام علي بن الحسين (عليه السلام)، وكتب ما فيها، ثم أتيت علي بن الحسين (صلوات الله عليه)، عرضت ما بها عليه، فعرفه وصححه)[6].
5ـ كتاب الجامع في الفقه.
وقد رواه عنه أبو حمزة الثمالي، وعبد الله بن إبراهيم بن الحسين الاصغر بن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام)[7].
6ـ كتاب الأحاديث.
ويشتمل على أحاديث الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وقد جمعه ابو سليمان الدهقان الكوفي، وهو (داود بن يحيى بن بشير)[8].
ثانياً - مدرسته العلمية.
وأما مدرسته في الفقه والحديث، فقد ذكر الشيخ الطوسي في رجاله الرواق عنه (عليه السلام) ورتبها على حروف المعجم فكانوا ينهلون من معينه، فبلغوا مائة وخمس وسبعون، وهم بين صحابي وتابعي[9].
ومن أبرز من حدث عنه: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد بن ابي بكر، وابو الزناد، ويحيى ابن أم الطويل، وعمرو بن دينار، والزهري، وزيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد الانصاري)[10] وطائفة كبيرة غير هؤلاء.
وكان (عليه السلام) يتتبع احوالهم، ويتفقد احتياجاتهم، ويحنو عليهم كالأب العطوف المشفق، وهذا هو شأن الإمامة اتجاه الرعية ويكفي في ذاك أنه كان المنقذ لابن شهاب الزهري حينما قتل شخصاً خطأً، فهام على وجهه وترك أهله، وضرب قسطاطاً، وقال:
لا يظلني سقف بيت، فمرَّ به زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) فقال:
«يا ابن شهاب، قنوطك أشد من ذنبك، فاتق الله، وأستغفره، وابعث إلى أهله بالدية، وارجع إلى أهلك».
فكان الزهري يقول:
(علي بن الحسين اعظم الناس عليَّ منّة)[11]
وقال ايضاً: (ما رأيت أفقه من علي بن الحسين)[12].
ومما لا ريب فيه ان تعظيم ابن شهاب الزهري واقراره بفضله وعلمه في الحلال والحرام وشريعة خير الأنام (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن تملقاً ولا تزلفاً وانما هو واقع الحال الذي كانت عليه المدينة ومكة وبلاد المسلمين فمن أفقه من رابع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) آنذاك لا سيما وان ابن شهاب كان بصيراً برواة حديث جمهور المسلمين وأهل العلم في زمانه كما دل عليه حديثه مع عبد الملك بن مروان حينما سأله عن أهل الفتيا ومن تصدى لها في البلاد.
فقد روى الحاكم النيسابوري، وابن عساكر الدمشقي، وابن الصلاح؛ والمزي، والذهبي، والدميري، عن أبي شهاب الزهري:
قال: (قدمت على عبد الملك بن مروان، فقال لي: من اين قدمت يا زهري؟ قالت: من مكة، قال: فمن خلفت يسود أهلها؟ قال:
قلت: عطاء بن أبي رباح، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي قال: وبم سادهم؟ قالت قلت: بالديانة والرواية قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا، فمن يسود أهل اليمن؟ قال:
قلت: طاووس بن كيسان، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي، قال: وبم سادهم؟ قال قلت: بما سادهم به عطاء، قال: إنه لينبغي، فمن يسود أهل مصر؟ قال :
قلت: يزيد بن أبي حبيب، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل الشام؟ قال:
قلت: مكحول، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي عبد نوبي اعتقته امرأة من هذيل، قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قال:
قلت: ميمون بن مهران، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قال:
قلت: الضحاك بن مزاحم، قال: فمن العرب أم الموالي؟ قال قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قال:
قلت: الحسن بن أبي الحسن، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي قال: ويلك، فمن يسود أهل الكوفة؟ قال:
قلت: إبراهيم النخعي قال فمن العرب أم الموالي قال:
قلت: من العرب، قال ويلك يا زهري، فرجت عني، والله ليسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها، قال قلت: يا أمير المؤمنين! إنما هو أمر الله ودينه من حفظه ساد ومن ضيعه سقط)[13].
وأخرج ابن عبد ربه الأندلسي عن ابن أبي ليلى أنه قال:
قال لي عيسى بن موسى وكان جائراً شديد العصبية-: من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن، قال ثم من؟
قلت: محمد بن سيرين، قال فما هما؟ قلت: موليان، قال: فمن كان فقيه مكة؟
قلت: عطاء بن أبي رباح ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وسليمان بن يسار، قال فما هؤلاء؟ قلت: موالي، قال فمن فقهاء المدينة؟
قلت: زيد بن أسلم ومحمد بن المنكدر ونافع بن أبي نجيح، قال: فما هؤلاء؟ قلت: موالي، فتغير لونه، ثم قال: فمن أفقه أهل قباء؟
قلت: ربيعة الرأي وأبو الزناد، قال فما كانا؟ قلت: من الموالي، فأربد وجهه، ثم قال: فمن كان فقيه اليمن؟ قلت: طاووس وابنه وهمام بن منبه، قال: فما هؤلاء؟
قلت: من الموالي، فانتفخت أوداجه وانتصب قاعداً، ثم قال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخراساني، قال: فما كان عطاء هذا؟
قلت: مولى، فازداد وجهه تربداً واسود اسوداداً حتى خفته، ثم قال: فمن كان فقيه الشام؟ قلت: مكحول، قال فما كان مكحول هذا؟
قلت: مولى، فازداد تغيظاً وحنقاً، ثم قال: فمن كان فقيه الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران، قال: فما كان؟
قلت: مولى، قال: فتنفس الصعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ قال: فوالله لو لا خوفه، لقلت: الحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان، لكن رأيت فيه الشر فقلت، إبراهيم والشعبي قال فما كانا؟ عربيان، قال الله أكبر، وسكن جأشه)
وعليه فكيف لابن شهاب ان يصرح باسم الامام زين العابدين عليه السلام، فضلا عن ان عبد الملك يعلم من هو الامام علي بن الحسين وما هي منزلته وفضله وعلمه، ولذا كان لا يروق له الحديث عنه ويكفي في ذاك دلالة ما أنشده الفرزدق في قصيدته الميمية رادًا بها على تجاهل عبد الملك لما رأى من اجلال الناس للإمام عليه السلام في الحج وقد انفرجوا له ليصل إلى الحجر الاسود ([14]).
الهوامش:
[1] موسوعة طبقات الفقهاء - اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام؛ المقدمة: ج2 ص 122.
[2] تحق العقول: ص 55 - 272
[3] الخصال، أبواب الخمسين: ص 564 - 571.
[4] بحار الأنوار: ج71 ص 3 - 22.
[5] مستدرك الوسائل للمحدث النووي: ج 11 ص 155 - 171.
[6] الفهرست للشيخ الطوسي: ص67، برقم 138؛ الكافي للكليني: ج8 ص 14 - 17؛ الشيعة والسيرة النبوية للمؤلف: ص154.
[7] رجال النجاشي: ص 116؛ برقم 298.
[8] رجال النجاشي: ص 157 برقم 415.
[9] رجال الطوسي: ص 81 - 102.
[10] موسوعة طبقات الفقهاء - اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام؛ المقدمة: ج2 ص 122.
[11] الطبقات الكبرى لابن سعد: ج5 ص 214.
[12] تذكرة الحفاظ للذهبي: ج 1 ص 75.
[13] ينظر:معرفة علوم الحديث- للحاكم -: 198، تاريخ دمشق 40/393 و ج 56/305، مقدمة ابن الصلاح: 244، تهذيب الكامل 13/51- 52، سير أعلام النبلاء 5/85، حياة الحيوان الكبرى 2/89.
[14] لمزيد من الاطلاع ينظر: موسوعة فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة، السيد نبيل الحسني: ج1، ص251- 295.