بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
ان الاستشهاد بمقولة المسيح بحسب مفهومها الذي وردت في سياقه، أي قوله للذين أرادوا أن ينتزعوا منه اعترافاً في التمرد على السلطة القائمة: (أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) تتناقض ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين الإسلامي، لأن معناها «أنه يجب الإذعان إلى الضرورات السياسية، إذ لا قيمة لها يجب دفع الضريبة الرمز الخالد للطاعة المدنية وذلك بالتحديد لأنها لا تخص الله»[1] فالفكر السياسي معدوم تماماً في الديانة المسيحية على اعتبار ان السياسة من اختصاص المجتمع الدنيوي وأن «أمور المجتمع الدنيوي تدرك بأنها مختلفة اختلافاً جذرياً عن أمور المجتمع السماوي»[2]، فالتبشير المسيحي مبني على أساس تثبيت الوضع القائم، وإقرار بالواقع الدنيوي بكل عيوبه، وهو موجه بالذات إلى المنبوذين والمعدمين لمحاولة إقناعهم بأن «الهناءة الحقيقية في نظام ملذات الأرض وأنه يجب تحمل حالات التعاسة الأرضية أو الاجتماعية أو الجسدية»[3] بعكس نظرة الإسلام للدين، حيث يرى فيه «أنه أساس المواطنة، فالدين هو بالماهية، قيمته من طبيعته السياسية، لا بل هو القيمة الحقيقية الوحيدة لهذه الطبيعة السياسية»[4]، لذلك فإن ما زعم من دنيوية السياسة في الإسلام استناداً على تنازع المسلمين على خلافة الرسول صلى الله عليه وآله «لأنه توفي من غير أن يسمي أحداً يخلفه من بعده»[5]تنبني على ركيزتين:
1ـ رفض نظرية الإمامة[6] عند الشيعة.
2ـ الاعتماد على مقولات فقهاء السنة في الإمامة والمستخلصة في وصف الواقع وتبريره دون محاكمته.
أولاً: رفض نظرية الإمامة عند الشيعة، ودراستها لغاية نقدية هجومية على الرغم من استقرائها ادلتها وبراهينها من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
ثانياً: الاعتماد على مقولات فقهاء السنة في الإمامة، والتي لم تكن سوى وصف لما حدث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله في محاولة لرفع الملام عن تصرف الصحابة وذلك في القديم وتأييداً لدنيوية الحاكمية في الإسلام في العصر الحديث، على الرغم مما يكتنف تلك المقولة من تناقضات.
الوصفية التبريرية تكمن في قولهم بشرطي صحة انعقاد الإمامة وهما:
1ـ اختبار أهل العقد والحل.
2ـ بعهد الإمام من قبل[7].
فعلى ضوء ما حدث في سقيفة بني ساعدة من مجلات انتهت بإشهار بيعة أبي بكر[8] انبثق شرط اختيار (أهل الحل والعقد) وصار شرطاً أساسيا في صحة انعقاد الإمامة. ثم ان شرط جواز قبول الإمامة بعهد الإمام من قبل فهو أيضاً تبرير لعهد أبي بكر في عمر[9]، ثم في حصر عمر الخلافة في ستة يتفقون فيما بيتهم لاختيار أحدهم خليفة[10].
أما تبرير الواقع، فهو القبول والتسليم بما حدث في الثلاث حالات على أنه من الأمور السياسية المقطوع بصحتها، بناء على صحة انعقاد الحكم باختيار فئة معينة هم (اهل الحل والعقد) أو بعهد من الخليفة السابق للخليفة اللاحق، مما اتاح فيما بعد للفقهاء ابتكار تبريرات أخرى جديدة تؤيد نظم الحكم التي فرضت نفسها بالقوة على دولة الإسلام.
وافتقار كلا الشرطين إلى الدليل الشرعي هو ما أتاح القول بانفصال الحكم عن الدين رغم الاقرار أن «الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها. إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا»[11]، فالتعريف كما يبدو ينص على ان الخلافة منصب ديني الهدف منه حمل الناس كافة على موائمة الأعمال الدنيوية، لتتناسب وأعمال الآخرة التي ترضي الله. وقد يبدو التعريف ـ من وجهة نظرنا ـ متوازنا من الناحية الدينية، لولا اسناده اختيار صاحب ذلك المنصب الخطير لأهل الحل والعقد مما يجعل الجانب الديني في بعض نواحيه يخضع إلى الجانب الدنيوي، الذي عادة ما تؤثر فيه العواطف الذاتية والانفعالات الشخصية من عصبية وموالاة، وحب، وكره وهو ما يتنافى في مجال التطبيق باعتراف المشرعين الإسلاميين كما يبدو من المقولة بأن «الأنظمة السياسية في الإسلام تتصف بأنها إسلامية أو بالأحرى دينية»[12]، وما دام الدين هو القيم على السياسة في الإسلام فلابد أن يكون للإمامة ـ الحارسة لتلك السياسة والمنفذة لها ـ شروطها المعتبرة مما يحتم عليها التعرض لها من حيث الوجوب وشروطه في الفكر الإسلامي، ومدى تطابقه وما جاء في فكر علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة[13].
الهوامش:
[1] تاريخ الأفكار السياسية 1/ 148.
[2] المصدر نفسه/ 149.
[3] المصدر نفسه/ 148.
[4] المصدر نفسه/ 191.
[5] راجع: خالد محي الدين: والاشتراكية ص 162، علي عبد الرزاق: الإسلام واصول الحكم ص 181، ممدوح حقي: التعليق على كتاب الإسلام واصول الحكم ص 187.
[6] حول نظرية الإمامة عند الشيعة، راجع ص 166 من هذا البحث.
[7] راجع كيفية انعقاد الإمامة عند: عبد القاهر البغدادي: اصول الدين ص 279، الماوردي: الأحكام السلطانية ص6، ابن حزم: الفصل في الملل والنحل 4/167.
[8] راجع ص180من هذا البحث.
[9] راجع ص180 من هذا البحث.
[10] راجع ص 180 من هذا البحث.
[11] ابن خلودون: المقدمة 239.
[12] أحمد محمود صبحي: نظرة الإمامة ص 17.
[13] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص151 – 154.