علي عباس فاضل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد..
يتحدد اتخاذ المدن بوصفها عواصم للدولة على وفق معايير خاصة تمتاز بها تلك المدينة، منها معايير جغرافية، وتاريخية وعمرانية وأمنية وغيرها، لأن هذه المدينة ترتكز عليها الدولة في بناء سلطتها، إذ تحوي على مقرات الدولة كلها، وتمتاز هكذا مدينة غالبا بالكثافة السكانية والموارد الاقتصادية التي تؤهلها لتكون عاصمة للدولة. كانت المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية على عهد رسول (صلى الله عليه وآله) ومن تلاه، ذلك أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد أقام بها بعد هجرته من مكة المكرمة، ليتخذها عاصمة للدولة الإسلامية، فبدأ (صلى الله عليه وآله) بخطوات بناء العاصمة، فكان أول ما قام به بناء المسجد الذي كان مقرا لاجتماع الناس للعبادة وإدارة شؤونهم، وتلاه ببناء المجتمع عبر المؤاخاة التي وحدت نسيج المجتمع الإسلامي آنذاك، واستمرت المدينة عاصمة للدولة الإسلامية حتى تولى أمير المؤمنين (عليه السلام) الخلافة.
لم يبق أمير المؤمنين (عليه السلام) طويلا في المدينة، إذ سرعان ما نكثت طائفة بيعتها وتوجت نحو العراق آملين السيطرة عليه واتخاذه مقرا وقاعدة للحرب على أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد روى أصحاب السير والتاريخ أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما أتاه خبر عائشة وطلحة والزبير، وأنهم قد توجهوا نحو العراق، خرج يبادر، وهو يرجو أن يدركهم ويردهم.. فلما انتهى إلى الربذة أتاه عنهم أنهم قد أُمعنوا، فأقام بالربذة أياماً، وأتاه عنهم أنهم يريدون البصرة، فسّر بذلك، وقال: إن أهل الكوفة أشد لي حباً، وفيهم رؤساء العرب وأعلامهم([1]). إذن فالسبب الأول في اختيار أمير المؤمنين (عليه السلام) الكوفة هو حبهم الشديد له وموالاتهم، وفيها رؤوس العرب وأعلامهم، أي كبار القوم وساداتهم، الذين يمكن لهم أن يجمعوا الناس حولهم بسهولة ويسر، إضافة لما تتميز به الكوفة من موقع جغرافي وامكانيات مادية وبشرية كبيرة، إذ قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إِن الرِّجَال وَالْأَمْوَال بالعراق وَلنْ يصيبنا إِلَّا مَا كتب اللَّه لنا)([2])، وقد كانت الكوفة المنطلق الأول نحو البلاد الأخرى، وكذلك فإن نشأتها كانت عسكرية كمقر للجيش الإسلامي، ومن ثم توطنتها قبائل العرب. ويصف أمير المؤمنين (عليه السلام) أهل الكوفة بأنهم إخوانه وأنصاره وذلك حين هم بالخروج إلى صفين بقوله: (يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ أَنْتُمْ إِخْوَانِي وَأَنْصَارِي وَأَعْوَانِي عَلَى الْحَقِّ، وَأَصْحَابِي إِلَى جِهَادِ الْمُحِلِّينَ، بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ، وَأَرْجُو تَمَامَ طَاعَةِ الْمُقْبِلِ)([3]).
يذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الكلام أنَّ أهل الكوفة هم سيفه القاطع الذي يضرب به الباطل، ويحق الحق، لما وجده فيهم من طاعة ومحبة وموالاة له، فكانوا له إخوة وأنصارا وأعوانا، وفي نص آخر في سبب اختياره الكوفة وأهلها (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي اخْتَرْتُكُمْ وَالنُّزُولَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لِمَا أَعْرِفُ مِنْ مَوَدَّتِكُمْ وحبكم لله عز وجل ولرسوله (صلى الله عليه وآله)، فَمَنْ جَاءَنِي وَنَصَرَنِي فَقَدْ أَجَابَ الْحَقَّ وَقَضَى الَّذِي عَلَيْهِ)([4]). هذه بعض الأسباب التي دعت أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يجعل من الكوفة عاصمة للدولة الإسلامية، فقد هاجر في سبيل الله وإعلاء شأن الدين الإسلامي كما هاجر أخوه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة إلى المدينة للهدف نفسه.
والحمد لله رب العالمين.
([1]) ينظر: تاريخ الطبري: 4/ 477، شرح نهج البلاغة للمعتزلي: 14/ 16.
([2]) الثقات، ابن حبان: 2/ 273.
([3]) تاريخ الطبري: 5/ 79، الكامل في التاريخ: 2/ 690.
([4])تاريخ الطبري: 4/ 477، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: 6/ 154.