بقلم: م. م. وئام علي القره غولي
الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ولا ينبغي الحمد إلا له، والصلاة والسلام على المحمود الصادق الأمين المنتجب المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين الهداة المهديين.
وبعد:
تعدُّ الجرائم الماسّة بأمنِ المُجتمع الاقتصادي واستقراره مِن الجرائمِ ذات الأثر في تدهورِ اقتصاد الدّولة واضمحلاله، وقد عملَ أمير المؤمنين (عليه السلام) على مواجهةِ هذهِ الجرائم من خلالِ تطبيق الحُدود على مُرتكبيها، والتي كانَ لها أثرٌ في تحقيقِ الأمن والاستقرار الاقتصادي في الدّولة، لذا سوف نَتناولُ في هذا المَطلب أثر تطبيق حدّ السرقة، ومِن ثمّ أثر تطبيق حد الخمر.
أولا: أثر تطبيق حد السرقة
في ((الرسالاتِ الإلهية الإنسان مُحترم، ويُحترم كلّ ما يمت إليه، والمال جزء من جهدِ الإنسان، ومن ثم جزء مِن الإنسان، والاعتداء عليه حرام، لأنّه اعتداء على كرامته، فلا بدّ أن يستعد لاعتداء الآخرين عليه))[1]، لذلك نجد الشارع المقدس يُوجه الخِطاب لكافّة المُؤمنين ويأمرُهم باحترامِ حقوق بعضهم بعضًا، نحو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[2]، فالشّريعة الإسلامية حَرَصت على صيانةِ الأموال، لكونِ المال مِن الضروريات التي تقومُ عليها الحياةِ الإنسانية، ولا تستقيم إلا بها، ومن أجلِ ذلك فتحت الشّريعة للإنسان أبواب الكَسب الحَلال مِن تجارةٍ وصناعةٍ وعملٍ وغير ذلك، وفي الوقتِ ذاته شرعت عقوبة رادعة لمن يستولونَ على أموالِ غيرهم بأيّ شكلٍ مِن الأشكال، وتمثلت هذه العقوبة بالحدّ الشّرعي (القطع)[3]، وقد أشارَ الإمامُ علي (عليه السلام) إلى كيفية هذه العقوبة بقوله (عليه السلام): ((تقطعُ يد السارق مِن أصل الأصابع الأربع، وتدع لهُ الراحة (الكف) والإبهام، وتُقطع الرّجل مِن الكعب، وتُدع له العقب يمشي عليها))[4].
وإنّ هذهِ العقوبة القاسية لم تُوضع اعتباطا، وإنّما هي مَبنية على أسسٍ مِن عِلم النّفس وطبائع البشر، لأن الذي وضعَها هو الخالق (عز وجل)، فالسّارق حينما يفكرُ في زيادةِ ماله بأخذ كسبِ غيره، فإنه يستصغرُ ما يكسبه عن طريقِ الحلال، فيستصغرُ هنا ثمرة عمله ليطمع في ثمرةِ عمل غيره، فيظهر أنّ الدافع مِن السّرقة يرجعُ إلى الرّغبة في زيادةِ الكسبِ، وقد حاربت الشّريعة هذا الدّافع في نفسِ الإنسان بتقرير عقوبة القطع، لأن قطعِ اليد أو الرجل يُؤدي إلى نقصِ الكَسب، ومن ثم أنّ هذا النّقص يدعو إلى كثرة العمل والخوف الشديد على المستقبل[5].
ومِن هذا المُنطلق كانَ لحد السرقة في عهدِ الإمام علي(عليه السلام) أثر كبير في تحسينِ الأيدي العاملة وزيادتها، فعند تطبيق هذا الحد سوف يردعُ الأفراد عن ارتكابِ الجّريمة واللجوء إلى الكسبِ الحلالِ بدل السّرقة الذي مِن شأنهِ زيادة الأيدي العاملة في المُجتمع، فالمعاقبون في زمنِ الإمام علي (عليه السلام) كانوا يخرجون إلى المُجتمع، ويلتجئونَ إلى العملِ وخير مثال على ذلك هو ما روي عن الحارث بن حصيرة قالَ: ((مررتُ بحبشيّ وهو يستسقي بالمدينةِ وإذا هو أقطع، فقلتُ له مَن قطعَك ؟ فقالَ: قَطعني خير النّاس، إنا أخذنا في سرقة ونحن ثمانية نفر، فذهبَ بِنا إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأقررنا بالسّرقة فقالَ لنا تعرفونَ أنّها حرام؟ قُلنا: نَعم فأمر بنا فقطعت أصابعنا مِن الرّاحة وخليت الإبهام، ثمّ أمر بِنا فحبسنا في بيتِ يطعمنا فيه السمن والعَسلِ حتى برأت أيدينا فأخرجنا وكسانا فأحسن كسوتنا، ثمّ قالَ لنا: إن تتوبوا وتصلحوا فهو خير لكم، يلحقكم الله بأيديكم إلى الجّنة، وإن لا تفعلوا يلحقكم بأيديكم إلى النار))[6].
فالرواية بَيّنت لنا أن العقوبة التي أنزلها الإمام علي (عليه السلام) بالجّاني كانَ لها أثرها في إصلاحهِ وتوبته مِن الجريمة التي ارتكبها، ودليل ذلك أنّه كانَ يعملُ في حقلِ السّقاية، أي أنّه تركَ السّرقة والتجأ إلى العملِ[7]، وبهذا يتضحُ أن هدف الإمام علي (عليه السلام) مِن تطبيقِ حدّ السّرقة هو قطع دابر الجريمة في المُجتمعِ وإصلاح المُجرمين، ليجنّب المُجتمع كثيرًا من المُعاناة والأضرار التي تنتجُ عن انتشارِ السّرقة، فإن بمجردِ تطبيق هذه العُقوبة سيرتدعُ كثير مِن المُجرمين الذين كانوا يرومونَ الاعتداء على الآخرين، وبذلك سوفَ يقعُ الحدّ على عدد قليل ممن لم تردعهم هيبة قوانين الشريعة الإسلامية، فالهدف الأساس من العقوبةِ كما توضحه لنا الرواية هو تزكية المجتمع من الجريمةِ بإصلاحِ المُذنبين وفتح باب التوبة أمامهم، لكون التوبة تتجلى بإصلاح الفساد الذي ارتكبوه بارتكابهم جريمة السرقة، قال تعالى: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ)[8].
ومِن جانب آخر إن في قطعِ يد السارق فى المرة الأولى ورجله اليُسرى في المرّة الثانية وحبسه في الثالثة، وقتله في الرابعة، لهو أقوى رادع لأمثاله الذين يودون الاعتداء على ممتلكات الآخرين، وهذا بدورهِ يؤدى إلى المحافظة على الأموال والمُمتلكات، وكذلك له أثر في استقرار المعاملات الاقتصادية في الدولةِ[9].[10].
الهوامش:
[1] فقه الحدود وأحكام العقوبات: المدرسي، ص 242.
[2] سورة النساء: الآية 29.
[3] ينظر: الوجيز في الفقه الجنائي: محمد نعيم ياسين، ص 96.
[4] مستدرك الوسائل: الميرزا النوري، 18/124- جامع أحاديث الشيعة: البروجردي، 25/538.
[5] ينظر: الحرية بين الدين والدولة: فاضل الصفار، دار السحر، كربلاء، ط2، 1424هـ، ص 228.
[6] الكافي: الكليني، 7/264- بحار الأنوار: المجلسي، 40/314.
[7] ينظر: الصديق الأكبر: الأعرجي، ص 899.
[8] سورة المائدة: الآية 39.
[9] ينظر: فقه السنة: سيد سابق، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1397هـ، 2 /485.
([10]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الفقه الجنائي في قضاء الإمام علي عليه السلام وأثره في بناء الدولة الإسلامية، الدكتورة ناهدة الغالبي، الباحثة وئام القره غولي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 232-235.